المقالة الرابعة عشرة

اله العالم والعالم

 

مقـدمـة

تأخر صدور هذا القسم من اصول الفلسفة كثيراً، فبين آخر صدور لاقسام هذا الكتاب حتى اليوم ستة عشر عاماً. لم أستطع ـ خلال هذه المدة الطويلة، رغم رغبتي، والحاح قرّاء هذا الكتاب ـ تحرير تعليقاتي على الاقسام المتبقية. لكن التوفيق حالفني اخيراً لانجاز هذه المهمة. وتمت تعاليقات هذا القسم قبل ما سبقه من اقسام، حيث انجزت نصف عمل هذه الاقسام حتى اليوم. وقد كان السياق الطبيعي يفرض علينا تأخير طبع هذا القسم ريثما تكتمل الاقسام السابقة عليه، لكننا اسرعنا بطبع هذا القسم قبل ما يسبقه من اقسام بحكم عدم وجود ارتباط مباشر بينها.

لقد اُعيد طبع الاقسام الاولى من اصول الفلسفة مراراً خلال هذه الفترة، واصدرت خلالها اكثر من دراسة، بعضها فلسفي ايضاً. لكنني حائر في تفسير اسباب تأخير العمل في اصول الفلسفة على هذا النحو؟ لكنهم يقولون ـ وحقاً قولهم ـ: الامور مرهونة باوقاتها، فلكل ظاهرة زمانها الخاص بها، ولا مجال لوجودها الا في ذلك الزمان.

إن العالم يشبه الشجرة العظيمة المثمرة، وثمار هذه الشجرة الضخمة لابد أن تطوي مراحلَ وتجتاز ظروفاً مختلفة، وتمر بها؛ لكي تظهر الثمرة من قلب الشجرة وتتدلى على اغصانها، ولابد أن يمضي وقت آخر ايضاً لكي تنضج هذه الثمرة وتتهيأ للقطاف. إن أُمَّ الزمان في انجابٍ مستمر، وكل انجاب معلول للقاح ومدة، نسميها زمان الحمل، حيث تخلق خلال هذه المدة اعضاء الوليد وجوارحه، ويتوفر ثدي الام على غذاء ملائم (الحليب)، وتتوفر ظروف الولادة، لكي يضع الوليد قدميه في ميدان الحياة.

حقاً إن هناك علاقة مباشرة بين الامكانات (العرض) والحاجات (الطلب) في جهاز الخلق العظيم، ومن هنا قالوا: ((الحظ الجديد ينجب وليداً جديداً)) وطبعاً (حينما يتحول الدم الى حليب يصبح حلواً). لكن هذه التحولات، والتغييرات تحصل جراء مجموعة افعال وانفعالات تدريجية، تتطلب زماناً ومدة. نعم لابد من فرصة لكي يتحول الدم الى حليب. إن علاقة الظواهر بالزمان المطلوب ـ حيث تتخذه جسراً للعبور، ومحيطاً تنمو فيه ـ عميقة جداً، بحيث لا يستطيع الفيلسوف أن يتصور اثنينية واستقلالاً بينهما.

رغم أن كل ظاهرة مرهونة بوقتها وزمانها، ولكن لا ينبغي اغفال دور الانسان في توجيه حركة الزمان، والتحكم في مجرياته. على أن زمام كل شيء بيد قدرته، وكل الاحوال، والازمنة قائمة بذاته، وليس هناك من قيد او شرط يحدد ارادته، والزمان، والمكان، والشرط، والقيد، والحد في مرتبة متأخرة عن ارادته ومشيئته، الا هو الذات التي لا تزال، ذات الحي القيوم المتعالي: سبق الاوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء ازله.

_____________

(1) نهج البلاغة، الخطبة 184.

 

تمثل ابحاث هذا القسم سعياً ملخصاً فيما يصطلح عليه الحكماء المسلمون (الالهيات بالمعنى الاخص)، اي البحث في ميدان معرفة الله، وصفاته وافعاله. حاول هذا القسم من البحث دراسة (الله) وصفاته الكمالية، وطراز نسبتها اليه، وصدور العالم منه، في ضوء الادلة العقلية والبراهين الفلسفية.

يخاطب هذا القسم من البحث كسائر الاقسام الاخرى الماديين ويدفع اشكالاتهم وشبهاتهم، التي تنشأ جميعها، جراء جهلهم بالحكمة الالهية. على أن الهدف الاساسي لبحثنا لا ينحصر في الاجابة على شبهات الماديين، ومن ثمَّ لا تنحصر قيمة هذا البحث في الجانب النقضي منه. بل الهدف الاساسي الذي يوفر لبحثنا قيمة اصيلة هو طرح الاسلوب السليم للاستدلال العقلي على قضايا ما بعد الطبيعة. وبعبارة اخرى: إن القيمة الاصيلة لهذا الكتاب تكمن في طريقة استدلاله العقلي والفكري على عالم ما وراء الطبيعة.

يعتبر الحكماء الالهيون هذا العلم افضل علم بافضل معلوم. ليس هناك مجال للبحث في أن موضوع هذا العلم هو اشرف وافضل المعلومات، حيث إن المعلوم في هذا العلم هو اشرف الموجودات (الذات الالهية المقدسة)، فهي منبع جميع الكمالات، واساس كل جمال وجلال وبهاء، وعظمة. بل الوجود الحقيقي ينحصر في وجوده، (كل شيء في الوجود اقل منه ويتوفر على اسم الوجود بوجوده).

انما ينصب الحديث حول قيمة هذا العلم بذاته. ولا يراد من القيمة هنا قيمته بالنسبة الى الانسان. اي لا نريد أن نبحث في قيمة معرفة الله، والايمان به بالنسبة الى الانسان؛ رغم أن معرفة الله، والايمان به من اشرف المعارف، وهي ليست مسألة خارجة عن الحياة، بل هي في عمق الحياة، واحدى دعائمها، وعلى حد تعبير الاديب الروسي تولستوي ((الايمان هو الشيء الذي يحيا به الانسان)). انما المقصود من القيمة هنا هو واقعية هذا العلم، اي الحدود التي يمكن الاعتماد في اطارها على هذا العلم من زاوية عقلية وفكرية.

إن الابحاث الالهية من ابعد الابحاث عن الحس والعيان، اذ تتناول هذه الابحاث الحديث حول ما وراء عالم المادة، وهذا كافٍ بالنسبة الى لون من الاتجاهات لكي يشككوا في قيمة، واعتبار هذا العلم. دعونا عن الماديين، الذين ينكرون عالم ما وراء الطبيعة بحجة انهم لم يلمسوه في الطبيعة، بل هناك فريق آخر لا ينحط الى هذا المستوى من التفكير، لكنه لا يعترف لهذا العلم بقيمته الحقيقية.

هناك فريق يرى أن اسرار ما وراء الطبيعة عسيرة على الكشف ومجهولة الى الحد الذي يجب على بني الانسان اغماض الطرف عن حل هذه المغلقات، فيقلعون عن اظهار وجهة النظر سلباً وايجاباً. إن هذا الفريق يرى أن يد العقل قصيرة جداً، ورطب المعرفة معلق على شواهق النخيل، ويوسم هذا الفريق باللاأدريين او الشكاك احياناً.

وهناك فريق اخر يرى أن هذا الطريق سالك، وبابه مشرعة، ويذهبون الى أن للانسان قدرة السير الى الملكوت الاعلى. لكن قدم الاستدلال في هذا الطريق متزلزلة، ولا يمكن الاطمئنان بها، ومن ثمَّ يتحفظون على السلوك العقلي في هذا الاتجاه. ويرى هؤلاء أن القلب وحده هو المعبر الى الله، والهادي الوحيد في فيافي هذا المسير، فالسلوك القلبي وحده موضع اطمئنان هؤلاء، لا السلوك العقلي. والعرفاء يدافعون عن هذه النظرية.

وهناك فريق آخر يقول: اين التراب ورب الارباب؟ فالابحاث الالهية سماوية، وينحصر اكتشاف اخبار السماء عن طريق السماء ذاتها. فنحن لا نعرف شيئاً عن الله، وصفاته الثبوتية والسلبية، وما هي الصفة التي يمكن نسبتها اليه او التي يمكن نفيها عنه، ولا يمكن أن نعرف ذلك. فنحن في الواقع لا يمكننا بمجرد عقولنا معرفة وجود موجود لا خالق له، ولا يمكن بعقولنا أن نفهم أن الله واحد او متعدد، بسيط او مركب، جسم او غير جسم، له جوارح بنحو من الانحاء او لا، مستقر على شيء او لا، نائم او يقظ، متحرك او لا؛ إن جميع هذه القضايا مجهولات بالنسبة الى البشر، ولا ينبغي تبني اي عقيدة في هذا المجال، الا عن طريق الإخبار السماوي. ولابد من التسليم بالوحي السماوي في هذه المسائل، دون اي بحث او حق في ابداء وجهة النظر والاستدلال، واستخدام المنطق.

يعتقد هذا الفريق أن نظرية الاسلام في هذا المجال تقوم على اساس التسليم والتعبد، لا على اساس التحقيق والبحث، وكل بحث او استفهام في هذا المجال بدعة، ومحرم من وجهة نظر الاسلام. ويدافع عن هذه النظرية الاشاعرة، والحنابلة الذين يطلقون على انفسهم (اهل الحديث).

سوف نغفل في هذه المقدمة البحث حول وجهات نظر الماديين واللاأدريين والشكاك؛ لان هذه الدراسة اشبعت البحث حول هذه النظريات في هذا القسم، وفي الاقسام السابقة ايضاً. اما نظرية العرفاء فهي لا تقوم على اساس انكار قيمة الطريق العقلي البرهاني، بل ترجح طريق القلب والسلوك، والتصفية الروحية على طريق العقل:

 

البحث العقلي درٌ ومرجان

لكن البحث المقصود هو بحث الروح

إن لبحث الروح منزلة رقيقة اخرى

فشراب الروح له فعله الخاص به

إن المعرفة الاستدلالية ـ من وجهة نظر العرفاء ـ التي يسعى اليها الفيلسوف لا تتجاوز حدود التصورات والمفاهيم الذهنية، واقناع القوة العقلية، على أن لذلك قيمة مهمة. لكن الفيض المعرفي الذي يسعى اليه العارف هو لون من الوان الوصول والتذوق. إن العقل يشبع من الداخل عبر المعرفة البرهانية، لكن الفيض المعرفي يحول كل الوجد الانساني الى كتلة من الحركة والشوق، ويسير به في الطريق الى الله، وهذا اللون من المعرفة يضيء الوجود الانساني، ويمنحه طاقة وجرأة وحباً، ويشيع في هذا الوجود خشوعاً ورقة ولطفاً، ومن ثمَّ يخلق انقلاباً في جميع ارجاء هذا الوجود. على أن ترجيح احد الطريقين على الاخر ـ من وجهة نظرنا ـ عمل غير مجدٍ؛ فكل واحد منهما يكمل الآخر، والعارف على كل حال لا ينكر قيمة الطريق الاستدلالي، ومن هنا لا نجد حاجة هنا لتناول نظرية هذا الفريق.

انما اجد من الواجب في هذه المقدمة اثارة البحث حول النظرية الاخيرة (نظرية اهل الحديث)؛ اذ جاءت النصوص من آيات وروايات في مواضع كثيرة من تعليقات هذا القسم، خلافاً للاقسام الاخرى؛ ومن هنا يتحتم علينا أن نتعرف على وجهة نظر الاسلام الواقعية في هذا المجال. خصوصاً وأن لنظرية الحنابلة واهل الحديث انصاراً معاصرين، وأن بعض كبار محدثي الشيعة في العصور المتأخرة قرروا بشكل صريح أن حتى مسألة وحدانية الباري مسألة سماوية، وليس لدى العقل البشري دليل كافٍ، والطريق الوحيد للايمان بوحدانية الله هو التعبد بمقولات الشارع.

يقول الحكماء الالهيون بصدد الاجابة على هذا الفريق: صحيح أن خبر السماء يجب سماعه من السماء، ولكن: اولاً: إن القوة المحيرة التي يتمتع بها الانسان (القوة العاقلة) قوة سماوية وليست ارضية، كما جاء في الاحاديث (إن الله ركّب طينة ابن ادم من طينة الحيوان وطينة الملائكة)، ومن هنا لا مانع من أن يتعرف الانسان بهذه القوة السماوية على بعض الحقائق السماوية. من الثابت إن الانسان لا يتمتع بالقدرة على اكتشاف جميع الحقائق السماوية، ولذا كان محتاجاً في حياته للوحي السماوي؛ ولكن القوة العاقلة ليست عاجزة تماماً عن اكتشاف ايٍّ من الحقائق السماوية، نظير المبدأ والمعاد. والدليل الساطع على أن الاسلام يرى امكانية العقل الانساني في الكشف عن الحقائق السماوية في حدود اصول الدين هو: إن الديانة الاسلامية لا ترى جواز التقليد في اصول الدين بأي وجه من الوجوه، ولابد من الايمان بها عن طريق الاستدلال والبحث.

ثانياً: هناك كثير من الحديث عن الحقائق السماوية في النصوص الاسلامية (القرآن والسنة)، فما هو هدف الوحي من طرح هذه المسائل؟ فهل هدف الوحي هو طرح مجموعة دروس للتفكير، والاستلهام، واثارة العقول لولوج ميدان الالهيات الفسيح، ام الهدف هو طرح مجموعة افكار لا تقبل الهضم، ومجموعة الغاز لا تقبل الحل؛ لكي تدفع العقول الى التسليم الاعمى بها، وقبولها بالمحاكاة والتقليد؟

إن الافكار والقضايا التي تطرح عبر الوحي على نوعين:

النوع الاول: مجموعة وصايا عملية تتطلب العمل بها، لكي تتحقق الاهداف المرجوة منها، وليس للمعرفة، والعلم اثر كبير في هذا النوع. فاذا استطاع الانسان أن يتعرف على اسرار هذه الاحكام، دون أن يعمل بها فسوف لا يصل الى النتيجة المرجوة، اما اذا مارسها تعبداً، وبدون معرفة السر الذي تنطوي عليه فسوف يحصل على النتيجة المطلوبة. على أن فلسفة هذه الاحكام بعيدة عن متناول العقل البشري في الغالب. وبديهي أن متابعة هذه الاحكام مع فهم ما تنطوي عليه من اسرار ذات اثر عملي افضل، لكن الهدف منها (الوصايا والاحكام) هو تطبيقها، والتعبد، والانقياد، لا معرفة اسرارها.