هوية الاحكام العملية

هل الاحكام العملية تخضع لقوانين القضايا الاخبارية؟ هل توصف جملة "الكذب لا ينبغي فعله" أو "الوفاء بالامانة واجب" بالصدق أو الكذب، أي تخضع لاحكام نظرية الصدق وفق قانون المنطق؟ هل الاحكام الاخلاقية وعامة أحكام الواجب والتدبير قضايا اخبارية أم انها جمل انشائية؟ هذه أسئلة تبحث في الصميم عن هوية الاحكام العملية. وقد أُثير البحث حولها حديثاً وازداد الاهتمام بهذا البحث في دائرتين ثقافيتين تحكمهما قطيعة، أعني دائرة الحكمة الغربية الحديثة، ودائرة البحث في علم أصول الفقه في مدرسة النجف الحديثة. دون ان تعني هذه الاثارة ان البحث حول هذا الموضوع جديد كل الجدة على محيط المعرفة الفلسفية في تاريخها الطويل.

لنلقي نظرة على الاثارة الحديثة لهذا البحث، حيث وقعت في زمن متقارب وفي دائرتين منفصلتين تماماً. ففي مطلع القرن العشرين أفضت اتجاهات البحث في حلقة فينا، التي صارت تعرف بالمدرسة الوضعية المنطقية، ودراسات مور وراسل فيما يُعرف بالمدرسة التحليلية إلى تركيز الاهتمام على تحليل هوية القضايا والاحكام، ومن ثمّ تحديد هوية القضية العلمية، ومصير المعرفة الانسانية، ولم تخرج الاحكام العملية من دائرة هذا الاهتمام، بل خضعت للدرس والتحليل في ضوء معايير المدرسة الوضعية، وقدمت هذه المدرسة اتجاهاً في درس وتحليل هوية الاحكام العملية، تحدد في ضوء دراسات أحد أقطاب هذه المدرسة (الفرد جولز آير)، ولم تعقم المحاولات في طول هذا الاتجاه، بل لا زال الجدل قائماً في محيط الحكمة الغربية حول تحديد هوية الاحكام العملية.

وفي مطلع القرن العشرين أيضاً وفي دائرة حكمة الشرق، وفي زاوية يُحجب عنها النور، أعني في محيط مدرسة الفقه الامامي في النجف الاشرف، طرحت أبحاث الشيخ محمد حسين الاصفهاني وأبحاث علمين من تلامذته العلاّمة الشيخ محمد رضا المظفر والعلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي، طرحت اشكالية "هوية الاحكام العملية" فتبنت هذه الابحاث نظرية الحكماء في تفسير هوية الاحكام العملية، وبهذا خالفت السائد والمشهور من نظرية في أوساط علماء أصول الفقه الامامي، حيث تلتزم هذه الاوساط وتتبنى نظرية علماء الكلام فيما اسميته بمدرسة العقل الكلامية، ولا يزال الجدل قائماً في أطراف هذا البحث، ولم يُحسم الخلاف بعد، وان تكاد الكفة تميل ـ لاسباب تستدعي الفحص ـ لاجراء مصالحة بين اتجاه الحكمة والكلام، بتطويع اتجاه الحكماء وتفسيره في ضوء معطيات مدرسة العقل الكلامية.

أما ما المقصود باتجاه الحكماء؟ فهو اتجاه الفلاسفة الاسلاميين واعلام المدرسة الارسطية، التي يمكن تلمسها بوضوح في نظرية البرهان من أبحاثهم المنطقية. وهذا يعني ان البحث في هوية الاحكام العملية لم يكن مغفلاً في أبحاث السلف من الحكماء. بل جاءت أبحاث المتأخرين من علماء أصول الفقه الامامي على قاعدة أبحاث السلف من الحكماء، كما جاء الدرس المعاصر في عالم الغرب امتداداً لما أثارته الحكمة الغربية الحديثة من بحث حول هوية القضايا، على يد أهم وأخطر حكماء السلف في هذه الحكمة (عما نوئيل كَنْت)، ومن قبله (دافيد هيوم).

بغية ضبط البحث الذي نرد تفاصيله لا بدّ من الاشارة إلى ما أنجزته في بحوث سابقاً بهذا الصدد. فقد تناولت درس هوية الاحكام العملية في دراستي "الاسس العقلية". عبر تفاصيل جزئيها، وتناولت بالتحديد في الجزء الاوّل موضوع "اخبارية أم انشائية" أحكام العقل العملي. ومن ثم سوف أتجنب تكرار ما جاء في "الاسس العقلية" وأقصر البحث على ما أستجد لدي من أفكار، وعلى ما لم تستوعبه دراساتي السابقة، وأقدر ضرورة طرحه وتثوير البحث في أطرافه.

 

مصير اتجاه مدرسة الحكماء:

ذهب الحكماء إلى ان الاحكام العملية تدخل في دائرة (المشهورات والاراء المحمودة)، وهي خارجة عن اطار القضايا البرهانية. وهي مدركات بعدية يدركها العقل جراء التربية والتدريب، ولا تدرك ببداهة العقل، كما هو الحال في مبادئ البرهان الست. بل تتقرر على أساس الاتفاق العام، وفي ضوء المصالح التي تكتشفها الجماعة الانسانية.

في ضوء هذا المذهب تضحى الاحكام العملية جملاً انشائية، تحمل أحكام الواجب على الموضوعات انشاءً، لا حكاية وأخباراً، فليس لهذه الاحكام واقع تحكي عنه، وتتصدى للاخبار عما فيه. ومن ثم لا تحكمها قواعد نظرية الصدق المنطقية. كما تضحى الاحكام العملية على أساس مذهب الحكماء اعتبارات ومواضعات وليست أحكاماً حقيقية، يمكن أن تنطبق عليها قواعد نظرية البرهان الارسطية.

أثارت أبحاث السيد الخوئي في علم أصول الفقه اشكالية (اخبارية أم انشائية) الاحكام العملية، وطرحها أستاذنا السيد محمد باقر الصدر في أبحاثه الاصولية، وقد عالجنا هذه الاشكالية في دراستنا "الاسس العقلية"(99). وسوف نشبع البحث ونعمّقه فيما يأتي عبر هذه الدراسة من معالجة مآل اتجاهات الحكمة العملية في غرب المعمورة.

أما موضوع اعتبارية الاحكام العملية فهو موضوع لم يتسرب من فكر الحكماء إلى الجدل التاريخي الكلامي حول (حسن الافعال وقبحها)، إلاّ ما لاحظته لدى الامام الغزالي في "المستصفى"، حيث استخدم إمام الاشعرية أدوات واتجاهات الحكماء في محاكمة اتجاه خصمه (مدرسة العقل الكلامية). إلاّ ان فيلسوفاً أصولياً في مدرسة النجف الاشرف الحديثة أعاد الحيوية لمذهب الحكماء في اعتبارية الاحكام العملية، وتابعه تلميذاه المظفر والطباطبائي في تأكيد هذا الاتجاه، بل أفاض الثاني عبر دراسات مستقلة في عرض هذا الاتجاه وتبنيه، وطرح أساس معرفي شامل للتمييز بين الاعتبار والحقيقة.

لقد وقفت في دراستي "الاسس العقلية" عند اتجاهات العلاّمة الطباطبائي ونظريته في ميدان الاحكام العملية، وعالجتها عرضاً ونقداً. كما عمدت إلى عرض الاتجاه المعارض تماماً لاتجاه العلاّمة، الذي طرحه أحد تلامذته، أعني اتجاه الدكتور مهدي حائري، حيث وقف الاخير موقفاً مناقضاً تماماً لموقف أستاذه في عد الاحكام العملية أحكاماً حقيقية تخضع لقوانين الواقع، بل كل الاعتبارات ما هي إلاّ جزء من هرم الوجود. وقد حاولت في الجزء الاوّل من "الاسس العقلية" الوقوف نقدياً من اتجاهات الدكتور حائري.

إلاّ ان اتجاه الحكماء في عد أحكام العقل العملي ضمن زمرة الاحكام الاعتبارية يعني الغاء أي طابع عقلي للاحكام الاخلاقية، بل اقامة الاخلاق والحكمة العملية على أساس تجريبي خالص يرتبط ارتباطاً مباشراً بالجانب البيولوجي من حياة البشر والجانب المصلحي في بناء الاجتماع الانساني. وهذا أمر قد نوافق على صدوره من باحث كـ "هربرت سبنسر" أو "ليفي بريل"، أي نجده منسجماً مع المنطلقات المعرفية لهؤلاء الباحثين. أما ان يصدر من حكماء مدرسة العقل المعرفية فهو أمر يبعث على الاستغراب في الحد الادنى.

هذا مضافاً إلى مشكلة جادة يثيرها هذا الاتجاه، وهي مشكلة التهافت وعدم الاتساق بين التقويم المنطقي للاحكام العملية وبين سائر مواقف الحكماء الاخرى، خصوصاً في أبحاث الالهيات بالمعنى الاخص; إذ كيف يمكن لفيلسوف أن يقرر "وقد ذهبت الاشعرية في العدل والجور في حق الله سبحانه إلى رأي غريب جداً في العقل..... والتزموا انه ليس هاهنا شيء هو في نفسه عدل، ولا شيء هو في نفسه جور. وهذا في غاية الشناعة.... وذلك انه إذا فرضنا انه لا يتصف بعدل أصلاً، بطل ما يعقل من ان هاهنا أشياء هي في نفسها عدل وخير، وأشياء هي في نفسها جور وشر"(100).

ولاخر ان يقول "ان الشر يقال على وجوه فيقال شر للافعال المذمومة، ويقال شر لمبادئها من الاخلاق.... والشر الذي هو في الافعال هو أيضاً انما هو بالقياس إلى من يفقد كماله مثل الظلم... وكذلك الاخلاق انما هي شرور بسبب صدور هذه عنها وهي مقارنه لاعدام النفس كمالات يجب ان تكون لها"(101).

ويقول "ولا يمكن ان يكون جمال أو بهاء فوق ان تكون الماهية عقلية محضة، خيرية محضة، بريئة عن كل واحد من أنحاء النقص، واحدة من جهة، فالواجب الوجود له الجمال والبهاء المحض، وبهاؤه هو ان يكون على ما يجب له"(102).

كيف يمكن لهؤلاء الحكماء اكتشاف العدل والخير المحض وبالذات، ومعرفة مبادئ الشر الاخلاقي، وتحديد الافعال التي هي شر وظلم، على أساس من الاراء المحمودة والمشهورات التي تقوم على هدي الاتفاق والمواضعة! فهل يمكن ان تكون المشهورات مادة لادلة الحكماء البرهانية؟ ألم يقصد الحكماء من إثبات الخيرية المحضة لذات الباري الاثبات البرهاني، فكيف يتسنى لهم مثل هذا الاثبات والخير وما يجب فعله مفاهيم تتحدد وفق المواضعة والاتفاق؟

لكن عدم الاتساق الذي يلاحظ على موقف الحكماء، وما يثيره من دهشة واستغراب لا يصح ان يكون باعثاً لتأويل متعسف لكلمات الاوائل، كما لا يصح علمياً ان يكون مسوغاً لتحميل الشيخ الرئيس مسؤولية هذا الارباك، والتحامل على أحد أكبر حكماء الاسلام. ثم كيف يمكن ان نبرئ ساحة أرسطو، ونصنفه على حكماء مدرسة العقل في الحكمة العملية والاخلاق؟! وأكتفي هنا بذكر بعض الاشارات التي تؤكد اتساق موقف الشيخ الرئيس في تقويم أحكام العقل العملي مع موقف سلفه المعلم الاول:

1 ـ ان أكبر خصوم الفلاسفة في تاريخ الفكر الاسلامي وأعرفهم بمواطن الجدل (أبو حامد الغزالي) يقرر مذهب الحكماء في مقاصد الفلاسفة، فيقول: "أما المشهورات فهي قضايا لا يعول فيها إلاّ على مجرد الشهرة، ونظر العوام.....

مثل قولك: الكذب قبيح. والنبي ينبغي ان لا يعذب. ولا يدخل الحمام بغير مئزر بحيث تنكشف العورة. والعدل واجب. والظلم قبيح. وأمثاله.

وهذه أمور تتكرر على السمع من الصبا، ويتفق عليه أهل البلاد لمصالح معاشهم، فتسارع النفوس إلى قبولها، لكثرة الالف... ولو قدر الانسان نفسه، وقد خلق عاقلاً، ولم يؤدب باستصلاح، ولم يتشبث بخلق، ولم يأنس باعتياد. وأورد على عقله هذه القضايا أمكنه الامتناع عن قبولها، لا كقولنا: الاثنان أكثر من الواحد"(103).

واستشهادنا بالغزالي له دلالته الكبيرة في هذا المجال، إذ حمّل الرجل نفسه رسالة نقد الفلسفة والبحث عن مثالبها. ولا شك ان امام الاشعرية ـ وهو واسع الاطلاع ـ سوف تغمره السعادة حينما يجد خصمه اللدود الاخر (المعتزلة) متفقين في الرأي مع الحكماء في تقويم الاحكام العملية، لكنه سجل الرأي، الذي لم يختلف حول نسبته إلى الحكماء عامة الباحثين.

2 ـ ان كبار الباحثين في الاصول اليونانية لحكمة أرسطو العملية أكدوا ان أرسطو لم يعتمد في حكمته العملية على قواعد العقل، بل لم أعثر على من ادعى خلاف ذلك في موكب الباحثين المحدثين. "فهم يرون ان الاسس الميتافيزيقية تتعلق في نظر أرسطو بموضوع آخر من الفلسفة، لان الخير في ذاته لا يمكن ان يتحقق في الواقع أو يحوزه إنسان. أما نظرية الخير فيجب ان تكون عملية أصلاً... وليدلل على ان منهج الاخلاق عملي ومحدد... وان النسق اللازم له: استقراء الواقع والصعود إلى النظريات لا الصدور عن المبادئ أو الاصول"(104).

يقول دلبوس: "ان الخلاف بين أرسطو وكَنْت هو في تصورهما للعلاقة بين النظرية والتطبيق، فأرسطو يرى ان النظرية تترتب على التطبيق"(105).

3 ـ ان مذهب أرسطو في الاخلاق مذهب في الفضيلة، لم يستند نظرياً على نسق نظري تسوغه نظرية البرهان في مفهومها الارسطي، بل اعتمد على الاستقراء والملاحظة، واتكأ أساساً على قيام الاخلاق في حياة الجماعة الانسانية، فالفضائل من وجهة نظر أرسطو تتبلور في ظل المدينة. وهذا ما ينسجم تماماً مع اخضاع الاحكام العملية لاعتبارات الجماعة الانسانية.

على أي حال أثارت اتجاهات ابن سينا في عدِّ الاحكام العملية من المشهورات والاراء المحمودة حماس بعض أنصار الحكماء فهرعوا متشبثين بتأويل للنصوص، يمثل في أحسن الحالات دليلاً على عقم محاولات المتشبثين، وتأكيداً لمذهب الحكماء في اعتبارية الاحكام العملية. ولعل أوفق المحاولات التي يمكن ان يركب سبيلها المتحمسون للمنهج الارسطي العقلي في المعرفة الانسانية هي تلك المحاولات التي سعت إلى بحث مستأنف في طبيعة الاحكام العملية، لتخلص إلى القول بان هذه الاحكام في جوهرها قضايا حقيقية إخبارية، تدخل في صميم نظرية الوجود، وتخضع لقوانين نظرية البرهان وأحكام القضايا الحقيقية الوجودية، وانّى لهذه المحاولات من النجاح!

والاوفق ـ من وجهة نظري وأنا من الذاهبين إلى ان الحكماء قرروا اعتبارية الاحكام العملية، وأطلقوها من قيود نظرية البرهان ـ ان نبحث عن سر التهافت والارباك بين موقف الحكماء من الاحكام العملية وبين مواقفهم الاخرى. هل من تفسير لموقف الحكماء؟ سوف أحاول الاجابة على هذا الاستفهام بادئاً من مراجعة وصفية لما أنجزه الحكماء في مجال نظرية البرهان، ولموقفهم من النظرية الاخلاقية، واضعاً هذه الاجابة في ما يلي من فقرات:

 

اولاً: تبنى الحكماء المسلمون نظرية البرهان الارسطية، أي نظرية (العلم)، التي طرحها أرسطو. حيث ذهب إلى ان العلم يصبو إلى (اليقين)، واليقين بتمامه لا يحصل إلاّ عبر اليقين المنطقي، الذي لا يسمح بأي احتمال للخلاف، فيكون يقيناً بصدق النسبة في قضايا العلم، توأماً ليقين باستحالة نقيضها. هذا هو هدف العلم في مدرسة أرسطو، ولا يتسنى بلوغ هذا الهدف إلاّ باداة (البرهان)، حيث يوفر بمادته وصورته اليقينين.

البرهان في صورته القياسية يورث اليقين بالنتيجة، إذ القياس ضمان منطقي لسلامة الاستنتاج على قاعدة استحالة اجتماع النقيضين. أما مادة البرهان، أي مادة القضايا البرهانية، فلا تورث اليقين ما لم تستند العلاقة بين المحمول والموضوع في القضية البرهانية إلى قاعدة عقلية، توفر بدورها لتلك العلاقة ثبوتاً وتقرراً يستحيل ان ينفك الموضوع عن محموله. وبهذا يضمن للاستنتاج البرهاني إثبات العلاقة بين الموضوع والمحمول ثبوتاً ضرورياً، يكون متعلقاً لليقين بثبوت النسبة واستحالة انفكاكها.

من هنا أضحى واضحاً ان قضايا العلم في مدرسة أرسطو، مضافاً إلى اتصافها بالعموم والدوام لا بدّ ان تتصف بالضرورة، أي ضرورة ثبوت المحمول للموضوع. سواء استندت هذه الضرورة إلى العلاقة الذاتية بين الموضوع والمحمول، أم استندت لوجود رباط ضروري علّي بين ماهيتي الموضوع والمحمول.

ولا أدري أيهما الاسبق في ذهن أرسطو، وما هي طبيعة العلاقة في جدل عقل أرسطو بين نظرته المعرفية وموقفه المنطقي من العلم والمعرفة العلمية، وبين نظرته الكونية وفهمه للطبيعة. حيث استحال العالم في ذهن أرسطو إلى سلسلة مترابطة من العلاقات الضرورية التي لا تقبل الانفصام، عالم متماسك في كائناته تماسك ذرات الحديد في ضوء العين المجردة، وعلم متماسك تربطه سلسلة من العلاقات الضرورية التي لا انفصام لها.

إذن فالضرورة الوجودية تحكم مفردات هرم الوجود برباطها الوثيق، كما تحكم مفردات هرم المعرفة الانسانية الحقة بهذا الرباط. هذه المعرفة التي لكي تكون علماً ويقيناً ومن ثم تتوفر على صدقها مع واقعها الضروري، لابد ان تكون ضرورية. وبهذا لا بدّ ان تكون المعرفة الانسانية بحقائق العالم عقلية حقاً، أي ان تنطلق وتتكأ على مبادئ العقل الضرورية.

ومن هنا تصبح قضايا المعرفة الانسانية ـ حسب وجهة نظر المدرسة الارسطية ـ قضايا عقلية. وهذه القضايا بحكم الرباط الضروري بين محمولها وموضوعها يستحيل ان يطرأ عليها التخصيص; إذ التخصيص يعادل سلب الذات عن الذاتيات أو سلب العلّة عن معلولها. فما دامت أحكام العقل ضرورية مطلقة، وثبوت المحمول للموضوع فيها يستحيل ارتفاعه، فسوف يستحيل بذلك عروض التخصيص على أحكام العقل; إذ التخصيص يعادل سلب الضرورة، ويعني إمكانية تخلف المحمول عن موضوعه.

 

ثانياً: أنصبت جهود الحكماء في الحكمة العملية على تدبير المدينة والمنزل وتحديد أحكام السلوك بوصفها أحكاماً تدبيرية تنتظم الافعال عملياً، في عالم واقعها الخارجي. ومن الملاحظ ان أحكام الافعال وهي تتحرك عملياً في أرض الواقع لا تكون عملية، ولا تتسم بالحكمة إذا جعلناها أحكاماً آبية عن التخصيص والاستثناء.

إذ كيف يمكن ان تكون أحكام الواجب عملية، وهي مطلقة شاملة لكل حالات الانسان؟! وكيف يمكن ان تكون أحكام الواجب والضرورات الاخلاقية مطلقة والافعال في أرض الواقع تتعارض وتتداخل؟! أجل ان تأسيس حكمة عملية تنظر إلى عالم الافعال الخارجي لا بدّ ان تأخذ بنظر اعتبارها ـ لكي تحافظ على سمتها الحكيمة ـ واقع الافعال الموضوعي، وما يطرأ عليها من حالات، وما يعتري المخاطب من معوقات.

أجل، ان كل فعل من الافعال الانسانية في عالم الخارج لا يوجد بذاته، وانما يوجد بفاعله، وتوأم ما يلابسه من حالات وظروف. فالفعل في العالم الموضوعي لا ينفك عن المعوقات والمزاحمات. خذ أي فعل من الافعال سوف تجد انك حينما تريد ان تحمل عليه سمة الواجب فعليك ان تقوّمه إلى جانب سائر ملابساته. فإذا سُئلت عن قضية من القضايا أو حدث من الاحداث، وأردت الاجابة التي هي فعل من الافعال تجد ان الاجابة الصادقة قد تؤدي إلى المس من كرامة المخاطب أو تؤدي إلى هلاكك أو حرمانك من حق أكيد وحاجة ملحة وهكذا. ولكي تحمل سمة الواجب على الفعل عليك بالموازنة آخذاً بالاعتبار قدرتك الارادية على تحمل عواقب امتثال الواجب.

من هنا فأحكام التشريع الاخلاقي، أي شرعة الاخلاق وما يسميه كَنْت "مذهب الفضيلة" لا بدّ ان تأتي مرنة مطواعة للتقييد والتخصيص والاستثناء.

 

ثالثاً: ان نهج الحكماء المسلمين في علم الاخلاق مستوحىً برمته من حكمة اليونان، وإذا أردنا ان ننصف التاريخ الفكري والثقافي للمسلمين فما علينا إلاّ ان نقرر ان الحكمة العملية التي طُرحت في ضوء الجدل الكلامي هي الانتاج الاسلامي الاصيل، إذ توفرت هذه الحكمة على كل عناصر الابداع وسمات الانتاج الداخلي. بينا لم يمثل الحكماء المسلمون إلاّ دور اعادة انتاج الحكمة العملية اليونانية، مادةً ومنهجاً. وكل ما حققوه من ابداع أو تجديد لم يخرج عن فلك الروح اليونانية.

ان انتاج أرسطو في الحكمة العملية ما هو إلاّ مذهب في الفضيلة، ومحاولات تدبيرية لتوجيه السلوك، الصق ما تكون بتشريع أخلاقي عملي. بل الحكمة العملية اليونانية باسرها ما هي إلاّ مذهب في السعادة، أي اتجاهات تدبيرية لتحقيق السعادة، ولم تأخذ بنظر اعتبارها تأسيس مبادئ نظرية للاخلاق.

أما علم الكلام الاسلامي فقد انطلق الجدل بين مدارسه من قاعدة تأسيس المبادئ النظرية للحكمة العملية. وتمخض عن الجدل الكلامي مذهب عقلي في الحكمة العملية، هذا المذهب الذي مهما اختلفت مواقفنا منه فهو يمثل ـ حسب وجهة نظري ـ الوجه الحقيقي للانتاج العقلي الاسلامي.

 

رابعاً: عكف الحكماء على تحديد ما هو برهاني من الاحكام، يدخل في دائرة العلم، وما يخرج عن هذه الدائرة من الاحكام. فلاحظوا ان الاحكام التدبيرية التي تتحدث عما ينبغي فعله أحكام يدخل التغيير وعدم الثبات في صميمها، ولا يسع لحكيم ان يقرر لها الاطلاق. انها أحكام تتحدث عما يجب وتقرر ضرورة عملية للافعال، لكن هذه الضرورة ليست على غرار الضرورة الوجودية، التي لا تنفك عن الموجودات، بل يستحيل انفكاكها.

وبهذا تحرم الاحكام العملية عن أي حكم عقلي، لان أحكامها ترتبط بالواقع التجريبي للافعال، بغية تحقيق السعادة لبني الانسان في الحياة المدنية. أما أحكام العقل فهي لا تتلائم بثباتها وضرورتها اللازمة مع واقع حياة المدنية المتغير، والتي تتقرر ضروراته تبعاً لحاجات المجتمع المدني المتغيرة المتحولة.

هذا هو تفسيري لموقف الحكماء وسره، الذي يحار الباحث في إثبات الانسجام والاتساق له مع سائر مواقف الحكماء الاخرى. فالحكماء يعتقدون ان الاحكام العملية لو كانت ذاتية لموضوعاتها لما اعتراها التقييد والتخصيص، ومن ثم فهي ليست عقلية، انما يقررها العقلاء وفقاً لمصالح مدينتهم وحياتهم التي ينشدون لها السعادة.

وفي ضوء هذا المذهب ـ الذي هو المذهب المنتصر في جدل المعرفة الغربية الحديثة ـ ليس هناك مقياس علوي تتحدد في ضوءه "المصلحة"، بل يبقى الباب مفتوحاً أمام الهيئة الاجتماعية لتقرر ما ينبغي وما لا ينبغي من الافعال. وبهذا تفقد الحكمة العملية مرتكزها، وتفقد الاخلاق قاعدتها ومسوغ مشروعيتها.

وليس أمام البحث العقلي من سبيل سوى استبصار افق يمييز بين الحكمة العملية على مستوى العقل وبين الحكمة العملية كمذهب في الفضيلة وكتشريع أخلاقي أو قل كأخلاق مشرعة. والعقل على المستوى الاوّل يدرك مبادئ الاخلاق ادراكاً أولياً بديهياً، اما على المستوى الثاني فتضحى الاحكام العملية أحكاماً عقلائية، تختلط فيها أحكام العقل بأحكام التجربة. لكنها أحكام غير عقلية على كل حال، انما يستهدي المشرّع بنور حكمة العقل، فيضع قواعده وتشريعاته مهتدياً بهذا النور، ساعياً لكي يبقى هذا النور متوهجاً على أرض الواقع. أي ان أحكام العقل تصبح قيماً ومعاييراً بيد المشرّع يستهدي في ضوءها، وتكون حكماً على أخلاقية تشريعاته.

هذا هو جوهر الاتجاه الذي يتبناه الباحث، وقد تم عرضه في الجزء الثاني من دراستي "الاسس العقلية". وإذ يتجاوز البحث في ضوء هذا الاتجاه الاشكالية، التي أفضت إلى موقف الحكماء، فانما يتجاوزها منطلقاً من أفق خاص في فهم الاحكام العملية، والتمييز بين عالميها، عالم العقل الخالص وعالم الواقع الموضوعي للافعال، كما ينطلق من كسر قيد حكومة نظرية البرهان على جميع أحكام العقل، إذ للعقل أحكام لا تخضع لنظرية البرهان، وهي الاحكام العملية الاولية.

 

انشائية الاحكام العملية أم اخباريتها؟

لا زلنا نتحدث في دائرة الشرق، وقد طرحت هذه الاشكالية ـ كما أشرت ـ في هذه الدائرة، عبر دراسات علماء أصول الفقه، وعلى وجه التحديد في إبحاث السيد الخوئي الاصولية، وقد ناقشها أستاذنا الصدر، وعرضنا لهذا الموضوع في "الاسس العقلية". وحيث أجد ضرورة بسط وتعميق البحث حول هذا الموضوع أعود لالخّص ما طرح في "الاسس العقلية" أولاً، ثم نتابع البحث.

علّق السيد الصدر على ما يظهر من نصوص أستاذه الخوئي في ذهاب الحكماء إلى ان الاحكام العملية قضايا انشائية، فقال: "انهم يصرحون بان المشهورات قضايا مقرونة بالتصديق الجازم... ومن الواضح ان فرض التصديق الجازم يستلزم افتراض القضية خبرية". وقد أجبت على ذلك بان التصديق بهذه الاحكام لا يقع على كونها وقائع، بل باعتبارها أحكاماً تضمن الصالح العام. ولا أجد هذه الاجابة شافية مقنعة!

نستأنف الحديث فنقول: ان الاحكام العملية يقع التصديق بها كأحكام والتزامات قائمة في حياة الجماعة ـ من وجهة نظر الحكماء ـ كما يقع التصديق بكل الاحكام الاعتبارية التي يلتزم بها أبناء العقد الاجتماعي، أو المؤمنون بالديانات والشرائع السماوية. فانا أصدق بأنني ملزم باداء الصلاة والصيام شهر رمضان، فهل يحول هذا التصديق وجوب صيام شهر رمضان وقول المشرع "يجب صوم شهر رمضان" إلى قضية اخبارية؟

ان التصديق بالاحكام العملية لا يحول هذه الاحكام إلى قضايا اخبارية يصح وسمها بالصدق أو الكذب، لان التصديق لا يتعلق بذات الاعتبار، انما ينصب على الخطاب الاعتباري للمصدق والمؤمن بهذاالخطاب. فالمسيحي لا يصدق بوجوب صوم شهر رمضان، أي لا يعتقد بهذا الوجوب، رغم شمول الخطاب له. وأهل الشارقة لا يعتقدون بقبح مد الارجل في مواجهة الجليس فلا يصدقون بالحكم القائل "لا ينبغي مد الارجل في مواجهة الجليس". فالايمان والتصديق بالشرائع والقوانين لا يحولها إلى قضايا اخبارية.

أجل ان الجمل الانشائية تُعد بدلالتها الالتزامية قضايا يمكن وصفها

بالصدق أو الكذب. اما ذات الجملة الانشائية فهي ليست بقضية ولا يصح وسمها بالصدق أو الكذب. فالسائل المستفهم يمكن ان تقول عنه وهو يستفهم انه كاذب، والكذب لا ينصب على الجملة الانشائية التي هي الاستفهام، بل ينصب على دلالة الجملة الالتزامية، حيث تدل الجملة الاستفهامية التزاماً على جهل المتكلم بالمسألة وطلبه الايضاح، بينا كان السائل عالماً استهدف المماراة والاحراج، فصح وصفه بالكذب، أو وصف استفهامه بالكذب.

ان الانشاءات حينما تقع في عالم الخارج تضحى وقائع، يصح وصفها والاخبار عنها، وعن مداها وأثرها، وهذا الاخبار لم ينشأ جراء كونها قضايا اخبارية. بل تبقى الاعتبارات أحكاماً متقومة بمنشأ اعتبارها، وليست وقائع كونية من نسيج العالم الموضوعي، الذي تحكمه قوانينه الخاصة. فليست هناك علاقات ذاتية موضوعية بين الاحكام الاعتبارية، بل هي أحكام قابلة للجعل، وقابلة للرفع.

ولعلنا نضيف إلى معالجة هذه الاشكالية ايضاحاً حينما نقرأ نص الشيخ الرئيس التالي:

"فإن التسليم والشهرة ليسا مبنيين على الحقيقة، بل حسب مناسبتهما للاذهان، وبحسب أصناف التخيل من الانسان. فمن المشهورات ما يكون السبب في شهرته تعلق المصلحة به، واجماع ارباب الملل عليه، قد رآه متقدموهم ومتأخروهم، حتى انها تبقى في الناس غير مستندة إلى أحد، وتصير شريعة غير مكتوبة، وتجري عليها التربية والتأديب، مثل قولهم: العدل يجب فعله، والكذب لا يجب قوله"(106).

وهناك نص لدى نصير الدين الطوسي في "التجريد" قسم المنطق، ذهب فيه إلى ان المشهور يقابل الشنيع، ومن ثم لا يجب ان يكون صادقاً، أي من أنكر المشهور فهو يرتكب ما يوسم بالشنيع، ولا يصح ان نقول انه كاذب، خلافاً للاحكام البرهانية الاولية والنظرية فهي صادقة وانكارها من حيث كونها تورث اليقين سيكون قولاً مخالفاً للواقع (كذب). "قال: والواجب قبولها مشهورة بحسب الاغلب ولا تنعكس وتستعمل في الجدل لشهرتها لا لوجوب قبولها وليس كل مشهور صادقاً بل المشهور يقابل الشنيع كما ان الصادق يقابل الكاذب"(107).

على أي حال، ليس في وسعنا قبول وجهة نظر المؤولين لنصوص الحكماء. فمواقف مدرسة الحكماء المسلمين ـ من وجهة نظر متابعتنا ـ لا تحتمل التأويل، وهي واضحة حسب فهمنا في تبني اتجاه الاعتبار والمواضعة، كأساس لتفسير الاحكام العملية. هذا الاتجاه الذي وجدناه جلياً في نصوص الشيخ الرئيس ومحيط مدرسته بشكل عام، وهو واضح أيضاً في ضوء نصوص مدرسة اصفهان. وقد عضّدت دراستنا عن نصير الدين الطوسي واتجاهاته في الحكمة العملية فهمنا وخيارنا في تفسير اتجاه الحكماء المسلمين.

إذن الاحكام العملية ـ من وجهة نظر الحكماء ـ اعتبارات ومواضعات لا تخضع لنظرية الصدق، بل هي جمل انشائية لا توصف بالصدق والكذب، وهما من أحكام القضايا الاخبارية، التي تنبأ عن واقع، انما توصف الاحكام العملية بما يلائم صلاحياتها، من قبول واعتراف أو رفض وتشنيع بها ـ على حد تعبير نصير الدين الطوسي.

لكن حكيماً من متأخري حكماء المسلمين وهو الفيلسوف السيد محمد حسين الطباطبائي قرر أمراً آخر بشأن الاحكام العملية والمدركات الاعتبارية بشكل عام. فالطباطبائي في سياق نظرية أشمل من الاحكام العملية ينتهي إلى ان هذه الاحكام اعتبارية في جوهرها، ومن ثمّ فهي أحكام كاذبة. وآية ذلك ان الاعتبار ـ حسب وجهة نظر الطباطبائي ـ يعني اضفاء طابع الواقعية على ما يقع في عالم وهم المعتبر. فحينما يسم الفعل بالوجوب فهو يقوم باضفاء طابع الضرورة والوجوب (القائم بحسب الواقع بين قواه الفعالة وما يصدر عنها من حركات) على الافعال الارادية. عندئذ "ماذا يفعله الباحث الذي يعكف على تحديد صدق وكذب القضايا ومطابقتها وعدم مطابقتها انطلاقاً من وجهة النظر الواقعية، ماذا يفعله هذا الباحث حينما يواجه تلك المفاهيم والقضايا المجازية والاستعارية؟ من الواضح ان هذا الباحث سوف يقرر عدم التطابق بين تلك المفاهيم بمفرداتها مع المصاديق الخارجية، ويقرر أيضاً كذب القضايا التي تؤلفها"(108).

لقد عالجت دراستنا "الاسس العقلية" نظرية الطباطبائي، هذه النظرية التي تشكل محوراً في الجدل الايراني المعاصر حول الحكمة العملية. يهمنا هنا ان نلاحظ صنيع الطباطبائي مقارناً مع اتجاهات في حكمة الغرب

المعاصر. وهي اتجاهات يرتد معضمها إلى الذي بدأ قراءته للحكم الاخلاقي من البحث عن معاني المصطلحات الاخلاقية، فأثار اشكالية هوية هذه الاحكام، أعني "دافيد هيوم"، الذي تشكل اشكالياته مصدر القلق المشروع في البحث العقلي المعاصر.

بدأ هيوم من تحليل المعاني الاخلاقية، أو قل من تحليل محمولات الجمل الاخلاقية، انطلاقاً من مذهبه واتجاهه المعرفي، ذي النزعة التجريبية الخالصة; وحيث لم يجد أي واقع موضوعي يمكن مشاهدته أو أي نسبة منطقية أزاء مفاهيمنا عن الحسن والعدل والحاسة الخلقية يستنتج ان دور المصطلح الاخلاقي ليس الحكاية عن الكيفيات والنسب، بل يفيد لوناً من الاحساس.

امتداداً لـ "هيوم" طرح فلاسفة الوضعية المنطقية نظير (آير) و (كارناب) مشروع اخراج الاحكام العملية من دائرة المعرفة والمنطق، فالاحكام العملية ـ حسب هؤلاء ـ ليست قضايا يمكن ان توصف بالصدق والكذب; لان المحمولات الاخلاقية ليست جزءً تحليلياً من موضوعاتها، ولا تشير إلى وقائع يمكن التحقق من صدقها تجريبياً، فهي شبه قضايا.

لكننا لاحظنا في متابعة لنصوص (آير) عبر دراستنا "الاسس العقلية" ان (آير) لا يكتفي بسلب سمة الاخبارية عن الاحكام العملية، بل يتعدى ذلك فيسم المفاهيم الاخلاقية بانها مفاهيم كاذبة. بينا يؤكد في نفس الوقت ان الاحكام الاخلاقية لا تخضع لنظرية الصدق لانها أحكام غير اخبارية، وقد لاحظنا في "الاسس العقلية"(109) تهافتاً بين موقفي (آير) لم نمتلك آنذاك

تفسيراً له، غير ان هناك موقفاً مشابهاً لموقف (آير) لدى (جون ماكي)، يفسر لنا ما لاحظناه من تهافت.

 

الطباطبائي وجون ماكي:

اختلاف الطباطبائي مع فلاسفة التجريبية المعرفية نظير آير، كارناب، راسل، ماكي... أمر لا يثير استغراباً، لاختلاف القاعدة المعرفية التي يعتمدها الفريقان. فالطباطبائي فيلسوف عقلي معرفياً، تشكل مدركات العقل القاعدة لهرم نظامه المعرفي، فإذا قُدر لمثل هذا الفيلسوف ان يختلف مع أولئك الحكماء الذين ينطلقون في رؤيتهم للاحكام العملية من قاعدة معرفية تجريبية فامرٌ في غاية الانسجام; انما المدهش هو لقاء الفريقين!

نظرية (جون ماكي)(110) في تفسير الاحكام العملية تنطلق من موقف معرفي تجريبي دون ريب. لكنها تعتمد على مقدمتين أساسيتين، أو قل تعتمد على منظارين، ففي ضوء منظار التحليل اللغوي لاستخدامات الاحكام العملية ينتهي ماكي إلى "تفسير الطابع الواقعي للغة الاخلاق، أي ذلك الطابع الذي يظهر في استعمالنا للمحمولات الاخلاقية للاشارة إلى الواقع الموضوعي على نحو يفترض احتواءه لقيم أخلاقية"(111). فهناك ميل متأصل في استخدام اللغة الاخلاقية نحو اعتبار الوجوب والضرورة الاخلاقية أمراً قائماً في ذات الافعال، واسباغ طابع موضوعي على الالزام الاخلاقي عامة.

تلاحظ ان (ماكي) يبدأ في نظريته بداية الطباطبائي; كانت بدايتهما من دلالة الاستعمال اللغوي، وعلى وجه التحديد من بحث في صميم فلسفة اللغة. فالعلاّمة الطباطبائي بدأ مع الاعتبار عامة من فكرة المجاز اللغوي، فكانت الاحكام العملية مجازاً لغوياً، ينطوي على اضفاء طابع الحقيقة على ما يتواضع عليه البشر من اعراف وأحكام. فالعلاّمة وماكي يلتقيان في منطلق التحليل، ويلتقيان أيضاً في النتيجة من ان الاحكام العملية يراد لها في الاستخدام وعالم الدلالة اللغوية اسباغ طابع الحقيقة عليها، وتأصيلها في العالم الموضوعي كأشياء وحقائق.

على ان كلا الحكيمين في تحليلهما، وفيما طرحا من نظرية في مجال الدلالة اللغوية لم يقدما لنا سوى مؤشرات تقع في دائرة الدرس السايكولوجي. رغم ان الطباطبائي كان الصق بالبحث اللغوي، حيث بدأ من فكرة المجاز اللغوي، لتكون الاساس في تحديد هوية الاعتبار عامة.

اما المنظار الاخر والمقدمة الثانية التي قامت عليها نظرية جون ماكي فهي قراءة وجودية لواقع الاحكام العملية، أي يتجاوز في هذا المنظار الدلالة اللغوية، وينصب الاهتمام على تحليل واقع الاحكام العملية; حيث يجد محمولات هذه الاحكام مفاهيماً ليس لها واقع موضوعي، وهي ليست جزءً من نسيج الوجود الواقعي للاشياء، خلافاً للاتجاهات الطبيعية، وانسياقاً مع اتجاه الفيلسوف التحليلي (جورج مور). إذ يعد الاخير الناقد الرئيسي للفلسفة الاخلاقية الطبيعية.

في ضوء هذين المنظارين يخلص جون ماكي إلى القول ان الاحكام العملية أحكام كاذبة، ولا يمكن ان تشكل موضوعاً للمعرفة. وآية ذلك ان الحكم الخلقي ليس له واقع موضوعي يمكن التحقق منه معرفياً. اما لماذا أضحت الاحكام الخلقية أحكاماً كاذبة، فامرٌ يستدعي ان نضيف إلى كونها غير ذات واقع موضوعي ان هذه الاحكام تحمل صفات موضوعية على الافعال وتفترض ان هناك صفة هي الواجب والمحظور الخلقي، وهذه الصفة قائمة موضوعياً في فعل من الافعال، وبما ان مثل هذه الصفات الموضوعية ليس لها واقع، إذن فكل حكم خلقي سوف يكون حكماً كاذباً.

تلاحظ ان هناك تطابقاً بين موقفي الطباطبائي وجون ماكي في نفي صفة الواقعية عن الاحكام الخلقية، وفي وسمها بالكذب. لكن مفهوم الواقعية لدى الطباطبائي أوسع دائرة من الواقعية لدى ماكي، إذ الواقع المنفي في حكاية الطباطبائي هو الاعم من العالم الطبيعي وعالم العقل الاولي، إذ الطباطبائي فيلسوف عقلي لا يستبعد المفاهيم العقلية القبلية، لكنه لا يجد لمدركات العقل العملي محلاً في مبادئ البرهان (المفاهيم العقلية القبلية). اما ماكي فالواقع لديه عالم التحقق الموضوعي الخارجي.

 

نظرية جون ماكي:

بغية استكمال خطوات بحثنا الراهن بوضوح، ونظراً لاهمية نظرية جون ماكي في سياق البحث عن هوية الاحكام العملية; كان لا بدّ لنا من تفصيل البحث في أطراف نظرية جون ماكي، وما لابسها من اتجاهات في عالم الحكمة الغربية المعاصرة.

ينطلق جون ماكي من التفرقة الحديثة بين أحكام الواقع أو الوجود وبين أحكام القيمة، فيعد الاحكام الاخلاقية في زمرة الاحكام القيمية. ومن ثمّ فهي ليست سمات موضوعية للافعال. على ان التمييز بين أحكام الواقع وأحكام القيمة بدأ واضحاً لدى فيلسوف التجريبية "دافيد هيوم". واستخدمه "جورج مور" أداة رئيسية لنقد الاتجاهات الطبيعية في فلسفة الاخلاق. تلك الاتجاهات التي تعد المحمولات الاخلاقية سمات واقعية تتصف بها الافعال.

ولما كانت المحمولات الاخلاقية سمات غير قائمة في عالم الخارج، لدى (مور)، إذن لا يمكن ان تكون الجمل الاخلاقية معطيات تجريبية، ومن العبث ان نتوسل بالحس كأداة لمعرفة المفاهيم الاخلاقية. ومن ثمّ انضم الفيلسوف التحليلي (جورج مور) إلى زمرة الفلاسفة الحدسيين القائلين بان المعرفة الخلقية تنبع من الحدس العقلي المباشر، وان اختلفوا في تحديد الموضوع الاساسي للمعرفة العقلية المباشرة، هل هو مفهوم الخير والشر وغيره من الصفات الخلقية، أم مبادئ خلقية مجردة، أم علاقة بين الفعل بماهيته وبين كونه واجباً؟

هناك اعتراض وجهه (جون ماكي) إلى الحدس العقلي عامة،

وهو اعتراض يشكل اشكالية امام جميع الاتجاهات القائلة بالبداهة والحدس الاولي في مجال الاخلاق، وسوف نهتم بالوقوف عنده وفحص مدى سلامته. انما يهمنا فعلاً ان نعود إلى نظرية (ماكي) في صورتها الاساسية، ونتفحص حججه في إثبات كذب الاحكام الخلقية، والاتجاه نحو لون من اللاأدرية الاخلاقية.

نبدأ من موضوع تشييء القيم، حيث ذهب (ماكي) إلى ان هناك ميلاً متأصلاً لدى الانسان نحو تشييء القيم، ومنحها صفة الواقعية والتحقق الخارجي. فحينما نقول (العدل حسن) أو (الصدق واجب) نعني ان الحسن والوجوب صفات قائمة في العدل والصدق، أي ان الافعال تتصف بهذه الصفة في واقع وجودها.

ان محاولة الانسان في استخداماته اللغوية باتجاه تشييء المفاهيم المجردة أمر لا يمكن انكاره، بل البحث في علوم اللغة وعلوم النفس يؤكد ان اللغة تنشأ من حيث الاساس انطلاقاً من الواقع المادي لحياة الانسان. أي ان النظام اللغوي مادي النشأة، ومن ثم يرتبط التعبير اللغوي عن المفاهيم المجردة بشكل طبيعي بمزاج النظام اللغوي، الذي طبعته نشأته.

مضافاً إلى ان اللغة أداة تعبير ووسيلة تفاهم، ولا مناص لهذه الوسيلة حتى في دلالالتها المجردة من الاقتراب إلى عالم الحس، والمحك الحسي، الذي يقرب المعقول المجرد، فتتيسر عملية التفاهيم الانساني التي هي غاية اللغة بل مسوغ وجودها.

لكن التشييء الدلالي في نظام اللغة الانساني ليس محور البحث الفلسفي الساعي صوب تحليل المضمون المعرفي للاحكام، سواء أكانت أحكاماً نظرية وقضايا اخبارية أم كانت أحكاماً عملية وجملاً انشائية. لنفترض جدلاً ان الاستخدام اللغوي للاحكام والمحمولات الاخلاقية عامة يتجه صوب افتراضها واقعاً خارجياً قائماً في موضوعاتها. فهل ينساق البحث العقلي مع هذا الافتراض ليذهب إلى ان المضمون الحقيقي للاحكام القيمية أمر حسي طبيعي؟

لنأخذ مثلاً الفروض العلمية، سواء أكانت في حقول المعرفة التجريبية أم كانت في حقول المعرفة الرياضية أو المنطقية بل عامة المعرفة العقلية. فهل الفرض العلمي ـ ونحن نبحث عن تأكيده أو ابطاله ـ قضية شيئية؟ حينما يكون الامر مرتبطاً بالمعرفة العقلية يصبح واضحاً ان الفرض العقلي حتى بعد تأكيده لا يقصد تشييئه، لا في عقل الباحث ولا في استخداماته اللغوية. اما الفرض التجريبي فجوهر البحث العلمي هو ان يبحث عن الشواهد والادلة التي تحوّل هذا الموجود العقلي إلى قضية واقعية حسية، تدعمها أدلة التجريب.

جوهر اشكالية ماكي يرجع ـ حسب وجهة نظر بحثنا ـ إلى الخلط بين الاحكام الاخلاقية وبين الصفات التي تطلق على موضوعاتها. طالما تستخدم اللغة الاخلاقية صفات تطلقها على الافعال كالخير والشر والحسن والقبح... ومن ثم جاء البحث لدى كثير من الباحثين متجهاً نحو تحديد هوية هذه المفاهيم هي هل صفات واقعية، هل هي مفاهيم يمكن تعريفها، هل هي صفات لاحقة أم صفات أصيلة...

هذا الخلط لس جديداً، بل وقعت به أبحاث المتكلمين المسلمين، وتنبه إليه بعضهم، وأظن ان عضد الدين الايجي هو أوّل من عالج بمنهجية الخلط بين مفهوم الحسن كصفة أو كحالة وبين مفهوم الحسن بوصفه مدركاً أخلاقياً. وأكد ان الحسن كصفة موضوعية أو كحالة نفسية أمر خارج عن دائرة البحث في الحسن والقبح، وهل هما عقليان أم شرعيان.

الاحكام الاخلاقية في جوهرها أوامر ونواهي تلحق الافعال، وليس هناك خير أخلاقي أو شر أخلاقي أو حسن وقبح منفصلاً عن مفهوم الواجبات الاخلاقية. ومن ثم يضحى البحث عن بساطة أو تركيب مفهوم الحسن والخير والقبح والشر لا موضوع له، كما يظهر أيضاً ان هذه المفاهيم مفاهيم لاحقة، تطلق على الافعال، وتوسم بها الافعال، تبعاً لاحكام الواجبات الاخلاقية التي تلحق الافعال.

على أي حال لم يفضِ مذهب (ماكي) في تكذيب الاحكام العملية إلى اخضاعها لنظرية الصدق، ما دامت الصفات المحمولة على المواضيع الاخلاقية ليست جزءً من نسيج العالم الواقعي. فهي لا تتعدى في جميع صورها الدعاوى الكاذبة، وكذبها ينشأ من عد ما هو غير واقعي (الصفات الاخلاقية) أمراً واقعياً. لكننا نتساءل عن مبرر وسم الاحكام الاخلاقية بالكذب سواء عند الطباطبائي أم عند ماكي؟

لقد انطلق كل من الطباطبائي وماكي في ترتيب حجته من الدلالة اللغوية، وإذا تفحصنا حجتيهما نجد ان موقفهما من الدلالة يستبطن موقفاً مسبقاً. فالاوّل يقرر ان الاعتبار ومنه الاحكام العملية عبارة عن أخذ شيء في حد شيء آخر، فحينما تسم الوفاء بالوعد بالوجوب العملي فقد أعطيت للامر الاعتباري حد الامر الواقعي الذي هو الوجوب والضرورة الوجودية، والثاني يقرر ان الانسان في استخدامه اللغوي للقيم يسعى إلى تشييئها ووضعها موضع الشيء الخارجي الواقعي.

تلاحظ ان كلاً منهما ينطلق من ان السمات القيمية والاخلاقية ليس لها وجود في عالم الواقع في المرتبة الاولى، وإلاّ ما معنى كونها مجازية أو انها تشييء، لا يعني ذلك سوى انها غير حقيقية وليست أشياء من نسيج العالم الخارجي، ولذا أضحت مجازاً واتجه الانسان في استخداماته اللغوية إلى تشييئها واعطائها حد الشيء الحقيقي الخارجي.

عندئذ اين كذب الاستخدام اللغوي؟ ما دامت الصفات الاخلاقية وعموم المحمولات العملية التي تقال على الافعال أموراً اعتبارية ومواضعات تترسخ في الدلالة اللغوية، فكيف صح وسمها بالكذب، هل هناك واقع خلف الاعتبار والمواضعة لكي يكون محكاً لامتحان الاعتبار واختبار صدقه أو كذبه؟

إذن ينصب البحث الفلسفي على تحديد طبيعة الاحكام الاخلاقية، وما هو محمولها، وكيف تترتب الصفات على الافعال الاخلاقية؟ نحن نعتقد ان الجمل الاخلاقية ترجع في جوهرها إلى حمل الواجب ولا ينبغي فعله. ومن ثم فهي أحكام انشائية لا توصف بالصدق والكذب. لكن عدم امكانية وصفها بالصدق والكذب لا يعني بالضرورة ان الاحكام الاخلاقية أجمع أحكام اعتبارية ومواضعات عرفية.

اما بالنسبة إلى اشكالية الصفات التي تحمل على الافعال كالحسن والقبح والخير والشر والكمال والنقص والمطلوب وغير المرغوب... فهي لا يمكن ان تدخل في دائرة الحكم الخلقي ما لم تكن في طول الحكم على الفعل بالواجب، أي ان حمل الواجب على الافعال هو الذي يتيح لنا وسم الفعل بانه حسن أو كمال أو خير أو عكس ذلك. إذ ماذا عسى ان يكون معنى حسن الفعل أخلاقياً، ما لم يكن هذا الحسن مدركاً في طول كون الفعل واجباً أخلاقياً؟

هذا إذا كنا نتحدث عن مبادئ الاخلاق والاصول الاساسية للحياة العملية الاخلاقية. اما إذا كنا نتحدث عن الاحكام الخلقية بوصفها تشريعات وقواعد مذهب فاضل في الحياة، فنظرنا إلى الافعال في عالم تحققها الموضوعي، عالم الخارج بملابساته، عالم التعارض والتزاحم بين الافعال، فسوف تكون الاحكام التشريعية واجبات مبنية على أساس توفر الافعال على صفات حقيقية قائمة في الواقع الموضوعي للافعال. هناك شريعة، وهناك حقيقة.

ولايضاح هذه الفكرة الهامة، التي تلقي ضوءً على ملابسات البحث في النظرية الاخلاقية عامة، وفي استخدامات العقل العملي التطبيقية نقول:

اولاً: التشريع الاخلاقي لا يمكن ان يكون عقلياً محضاً، لان التشريعات والقوانين لا تلحظ الفعل بما هو، بل تلحظ الفعل في عالم تعينه التجريبي، وهو عالم تزاحم الافعال وتعارضها واصطدامها بخيارات الواقع وامكاناته ومتغيراتها التاريخية والجغرافية. ومن ثم لا تأتي هذه الاحكام مطلقة عامة عموماً لا يقبل التخصيص، كما هو الحال في الاحكام العقلية.

ثانياً: ما دامت أحكام التشريع تخضع للتقييد والتخصيص وحتى الاسقاط والنسخ فهي ليست أحكاماً واقعية تكوينية، وليست أحكاماً عقلية، مدركة بالبداهة والادراك العقلي المباشر. بل تستند إلى علم المشرع وتعتمد في أخلاقيتها على مدى أخلاقيته.

ثالثاً: أحكام التشريع الاخلاقي ليست أولية، انما هي أحكام بعدية، بعد ادراك المصالح والمفاسد، وادراك الاثار العملية للاحكام، وبعد معرفة ما يحفظ القيم وما يتعارض معها. فالكذب لا ينبغي فعله، وهذا مدرك قبلي، لكن المشرع حينما يقول "الكذب لا ينبغي فعله" لا يقرر حكماً عقلياً قبلياً، ولذا نجد جل من قرروا هذه القاعدة قيدوها بالكذب الضار، ورفعوا عنها الحظر حينما يكون الكذب لانقاذ حياة نبي. ان المشرع ليس بوسعه ان يخصص المبدأ العقلي، بل يضع قاعدة تشريعية مختلفة النسق (حيث تقبل التخصيص والتقييد)، بحكم ملاحظته للكذب كفعل في عالم تعيّنه الخارجي، ولا يقتصر على ملاحظة الفعل بذاته مجرداً عن ملابسات عالم الخارج.

وهنا ملاحظة جديرة بالتأمل: قال بعض الباحثين ان الكذب أو أي فعل آخر حينما يفضي إلى ضياع مصلحة عظيمة أو يؤدي إلى مخالفة أخلاقية أكثر أهمية، فان الحظر والحرمة ترفع الكذب ولا يبقى لدينا (الكذب لا ينبغي); ولكن يبقى الكذب قبيحاً، أي ان قبح الكذب يبقى رغم زوال حكم الواجب.

من السهل الاعتراض على هؤلاء الباحثين وفق اسسهم، أو وفق الاسس المتفق عليها في اطار جدل المتكلمين. فنقول لهم ألستم القائلين بان الحسن والقبح يعادل ما ينبغي وما لا ينبغي فعله، فكيف يبقى أحدهما ويطير الاخر، يبقى القبح ويرتفع لا ينبغي؟ ولو تم الاصرار على التمييز بين الواجب (ينبغي ـ لا ينبغي) وبين الصفة (الحسن والقبح)، فماذا سوف يكون المدرك العقلي المباشر من الحسن أو القبح في الافعال؟ هل يكون أمراً آخر غير حكم الواجب والامر والنهي؟

لكننا لا نريد ان نكرّس الاعتراض هنا، بل نحاول ان نجد تفسيراً لكلام هؤلاء الباحثين: يرتفع الحظر ويبقى القبح، أو يرتفع الوجوب ويبقى الحسن!

لنأخذ مثلاً: لو تعارض الامر بوجوب الوفاء بالوعد، والامر بانقاذ الغريق.

العقل الاولي والاصول والمبادئ الاخلاقية المدركة بشكل مباشر لا تسعفنا جواباً على الخروج من هذه الاشكالية. لان هذه الاشكالية ليست ملحوظة في عالم العقل، بل تنشأ جراء ملابسات عالم الخارج. ومن ثم يأتي المشرع والعقلاء وفق مقاييس تختلط فيها المصالح والمنافع بقيم ومبادئ الاخلاق التي ينادي بها الضمير ويدركها العقل بشكل مباشر.

لنفرض ان التشريع يقول لمن تعارض لديه هذان الامران عليك بانقاذ الغريق، واترك الامر بوجوب الوفاء بالوعد. إذ ليس في وسع التشريع ان يقرر كما يقرر العقل البديهي وجوب الالتزام بالامرين، التشريع أمام واقع مختلف عن واقع تقرر الفعلين في عالم العقل حيث لا تعارض بينهما. ومن هنا لا بدّ من ان يقرر تقديم أحدهما على الاخر. في هذه الحالة يرتفع الامر والوجوب القاضي بالوفاء بالوعد، ولكن يبقى الوفاء بالوعد حسناً.

وهنا نتسائل عن مفهوم الحسن القار، هل هو حسن ومصلحة واقعية في الوفاء بالوعد هنا؟ الواقع يقول ان الوفاء بالوعد يفضي إلى القضاء على حياة إنسان، فأي مصلحة وأي حسن واقعي في هذا الوفاء؟

نعم المشرع لا يجد حسناً أو مصلحة في الوفاء بالوعد هنا، لكن الوفاء بالوعد يبقى حسناً في افق العقل والضمير، وهذا الحسن لا يعني سوى حكم العقل الاولي بوجوب الوفاء بالوعد.

ارتفاع الحكم وبقاء الحسن، لا يعني سوى قرار المشرع الاعتباري برفع الحكم، وبقاء الفعل بما هو بذاته، وبغض النظر عن ملابسات عالم التشريع (عالم الافعال الخارجي)، بقاؤه على وجوبه المطلق. فالواقع لا يلغي ثبوت القيم وتقررها في عالم آخر.

أجل ليس أمام مدرسة العقل باتجاهاتها المختلفة إلاّ التفرقة بين أحكام العقل ومبادئ الاخلاق المدركة ادراكاً عقلياً مباشراً، وبين التشريعات الاخلاقية، بين الثابت المطلق، وبين المتغير الذي قالوا عنه (ما من عام إلاّ وقد خُص)، بين نظرية الواجب وبين مذهب الفضيلة. التمييز بين نسق الحكم المطلق والحكم القابل للتقييد.

ان عدم التمييز بين القانون الاخلاقي المطلق وبين قواعد التشريع الاخلاقي يضع المذهب العقلي باتجاهاته المختلفة أمام مشكلته الرئيسية. إذ كيف يحفظ للمبدأ الاخلاقي اطلاقه بينا لا بدّ من تخصيصه على أرض الواقع. عالج أستاذنا الصدر هذه المشكلة بالذهاب إلى ان المبادئ الاولية العملية ليست فعلية وانما هي مبادئ اقتضائية على مستوى العقل اقتضاءً مطلقاً، وفعليتها على أرض الواقع منوطة بعدم وجود مزاحم أكثر أهمية.

لا شك ان العقل الفلسفي المركب للاستاذ هو الذي دفعه إلى الوقوف على هذه المشكلة وعدم المرور عليها وتجاوزها، إلاّ اننا لاحظنا في دراستنا (الاسس العقلية) ان معالجة الاستاذ ليست مقنعة، لانها تتعامل مع أحكام العقل على غرار تعاملها مع أحكام التشريع المحكومة بقواعد التزاحم والتعارض.

والملاحظ ان هذه المشكلة التي تواجه نظرية فيلسوف العقلية العملية عمانوئيل كنت استوقفت الفيلسوف الانجليزي (وليم ديفيد روس)، إذ لاحظ ان مبادئ القانون الاخلاقي المطلقة لدى (كَنْت) "لا تكفي لحل التعارض في الواجبات الخلقية الذي قد ينشأ في أوضاع عينية. ففي بعض الحالات، قد يكون الكذب، مثلاً، ضرورياً لتجنيب شخص الاذى. فإذا كذبت لهذا الغرض، أعامل من اكذب عليه على انه مجرد وسيلة لغاية وإذا لم أكذب، سيلحق الاذى بشخص آخر، وسيعني هذا انني أعامل هذا الشخص الاخر على انه مجرد وسيلة. فهل أكذب على شخص لاجنب الشخص الاخر أم استنكف عن الكذب فيلحق الاذى بهذا الشخص الاخر؟"(112).

من هنا ذهب (وليم روس) إلى ان انقاذ المذهب العقلي منوط بالتخلي عن مفهوم الالزام المطلق، واستبداله بمفهوم "الالزام للوهلة الاولى". أي ان العقل يدرك بالبداهة مجموعة من الالزامات الخلقية تقتضي بنفسها ان تفعل ما لم يتعارض الفعل الملزم به مع الزام خلقي آخر.

ان مفهوم "الالزام للوهلة الاولى" هو عين مفهوم "الاقتضائية"، الذي طرحه السيد محمد باقر الصدر. وقد لاحظنا ان الوهلة الاولى أو الاقتضائية مفاهيم يُقيّد فيها المدرك العقلي، وهي من خارج محيط العقل، هي مفاهيم تفرضها خبرتنا التصديقية بواقع الافعال، ومن ثمّ يكون تقييد الحكم الاخلاقي والمدرك الاولي بها تقييداً يخرجها من عالم البداهة العقلية ويدخلها في دائرة الخبرة والمعرفة البعدية.

هذا مضافاً إلى ان العقل البديهي لا يمتلك سُلماً لتحديد الاولويات. إذ وجود مثل هذا السُلم يعادل افتراض العقل التعارض بين واجباته، وهي متعايشة بسلام في محيط العقل، ولا ينشأ التعارض بينها إلاّ في عالم التزاحم والتضاد العيني الخارجي. لكن (روس)(113) افترض وجود مثل هذا السُلم، وان الحدس والبداهة قادرة على تحديد الواجب الاهم عندما تتعارض الواجبات الاخلاقية على أرض الواقع.

إلاّ ان فيلسوف العقلية (كَنْت) وجل حكماء البشر لم يعثروا على مثل هذا السلم، الذي يغنينا عن البحث في شرائع الاديان وقوانين البشر. واستطاع العقلاء الخروج بفتاوى موحدة في الجواب على ما أسماه (كَنْت) أسئلة الفتاوى. حيث طرح ألواناً من التعارض بين الواجبات، ثم أسئلة حائرة، تبحث عن اجابة عقلية خالصة!

حينما يكون البحث في الشريعة الاخلاقية يختفي الحكم المطلق، إذ لا يصح تحميل الواقع المتعارض المتغير أحكاماً مطلقة ثابتة. أجل، التشريع يلاحظ الافعال في ضوء المعايير العامة، التي تتحدد وفق الاصول والمبادئ الاولية، ووفق واقع الافعال في عالم الحياة الانسانية الواقعية، هذاالعالم الذي يروغ على الثبات والتعايش المطلق الامن بين الافعال. المشرع لا يلحظ الفعل بذاته، بل يلحظ الفعل بملابساته، ومن ثم تتأثر الاحكام التشريعية الاخلاقية بواقع الافعال وصفاتها الموضوعية.

ولا يذهب بك الوهم إلى اننا نقول بتبعية أخلاقية التشريعات للواقع والمعرفة التجريبية والنظرية عامة. بل نؤكد ان أخلاقية أي شريعة تقاس بحجم حفظها للمبادئ والاحكام الاخلاقية الاولية، حفظها ما أمكن الحفظ على أرض الواقع، ولكن هذا لا يعني ان خيارات المشرع يمكن ان تتحدد بشكل أولي قبلي، بل تتأثر بخبرته وعلمه. وهذا التأثير لا يحدد أخلاقية الفعل بل أخلاقيته تنبع من مصدر متعالي قبل الخبرة والتجربة، أعني المبادئ الاخلاقية الاولية، التي يدركها الانسان بنور العقل البديهي.

نعود إلى نظرية التكذيب، التي ترى ان الاحكام العملية كاذبة، لانها تسم الافعال بسمات واقعية، وهي نظرية العلاّمة الطباطبائي وجون ماكي; نشير إلى الفرق بين الرجلين، حيث تتسع دائرة الواقع لدى العلاّمة للسمات العقلية والمفاهيم، التي ينتزعها العقل من الواقع الحسي دون ان يكون لها مطابق حسي مباشر، وهي ما يطلق عليه في مصطلح الحكماء المسلمين (المعقولات الثانية).

يرى العلاّمة ان مفهوم الوجوب والضرورة الذي يلحق الافعال سمة واقعية أساساً، لكنها تستخدم استخداماً مجازياً، وتطلق على الافعال اعتباراً. يراد من مفهوم الضرورة هنا الضرورة التي يدركها العقل كعلاقة قائمة بين العلة والمعلول، ويذهب الفلاسفة المسلمون إلى ان مفهوم الضرورة معقول ثاني، ينتزعه العقل من الخارج، من علاقة كل العلل بمعلولاتها في عالم الواقع. إذن فالوجوب والضرورة الاخلاقية حينما تحمل على الافعال تصبح كذباً ـ من وجهة نظر العلاّمة ـ على غرار المجاز باجمعه، فالمجاز اعتبار للصفة الحقيقية في موضع آخر غير حقيقي.

نلاحظ اننا لو سلمنا بان المجاز يوسم بالكذب، واغمضنا النظر عن ان عالم الدلالة باسره هو عالم المواضعة والاعتبار، وان الدلالة الحقيقية دلالة اعتبارية. لو سلمنا بان المجاز كذب، ولكن يبقى لنا ان نتسائل هل حمل الوجوب الاخلاقي على الافعال هو حمل لمفهوم الضرورة، التي ينتزعها العقل من الخارج أوّلاً؟

من الواضح ان الذهاب إلى كذب الاحكام الاخلاقية يعتمد على قاعدة اكتشاف عدم التطابق بين مفهوم الحكم الاخلاقي المحمول على المواضيع (الافعال)، وبين عالم التحقق من حمل هذا المفهوم على الافعال.

المحمول في قولنا (الوفاء بالوعد ينبغي فعله) هو عبارة عن مفهوم الضرورة، وهو مفهوم واقعي، بينا لا تتوفر الضرورة الاخلاقية على وجود في الواقع لا في عالم العقل ولا في عالم الخارج، بل هي اعتبار ومواضعه; إذن سوف لا يصدق مفهوم الضرورة على الافعال.

 

نلاحظ:

اولاً: اننا نجد فرقاً جوهرياً بين مفهومي الضرورة الوجودية والضرورة الاخلاقية. فمفهوم الضرورة الوجودية يعني استحالة تخلف المعلول عن علته التامة، أي وجوب الوجود، اما مفهوم الضرورة الاخلاقية فهو لا يستبطن مفهوم الاستحالة، ولا يعني سوى ضرورة ايجاد الفعل، الذي يمكن صدوره من الارادة العاقلة، أي الالزام بالفعل، لا حتمية وجوده.

ثانياً: لو كان الطباطبائي ممن يرى واقعية الاحكام الخلقية ويرفض نظرية الاعتبار، فهل يصل الدور إلى نظرية التكذيب. والامر كذلك بالنسبة إلى نظرية (جون ماكي) فهو انطلاقاً من موقف معرفي اثبت ان الاحكام الاخلاقية وما يترتب عليها من صفات ليست موضوعية واقعية، والواقع عنده ما يمكن التحقق تجريبياً منه، ومن ثم حاول تفسير الواقعية في الاستخدام اللغوي على انها تشييء وفرض حسية القيم. ولو لم يكن مفهوم التحقق لديه مقتصراً على الواقع التجريبي، وكان ممن يؤمن بواقعية المدرك العقلي فسوف يجد في مفهوم الالزام نكهة غير حسية.

ثالثاً: ان الذهاب إلى انكار واقعية الاحكام الاخلاقية، وارجاعها إلى الاعتبار والمواضعة لا يتوقف على اثبات ان الالزام الاخلاقي يعادل الضرورة الوجودية، أو هو مفهوم مستعار من مفهوم الوجوب والضرورة الوجودية. مفهوم الالزام الاخلاقي حتى لو فرضناه بديهياً يمكننا ان نتلمس نفس الحجج التي قادت القائلين بالاعتبار. مضافاً إلى ان القاعدة التي يتمسك بها الطباطبائي وعامة الحكماء المسلمين من ارجاع كل المفاهيم إلى أساس حسي (وفق نظرية الانتزاع) لا تحتم ان يكون المفهوم الاعتباري مفهوماً غير حقيقي وغير واقعي، بل فتحت الباب واسعاً أمام المعقولات ]سواء تلك المنتزعة في طول المعقولات الاولى، أم في طول المعقولات الثانية[.

أي ان الطباطبائي وماكي في تحليلهم للدلالة والاستخدام اللغوي انطلقا من موقف معرفي، وحاولا تكذيب الواقعية الدلالية، لانها لا تنسجم مع موقفهم المعرفي من الاحكام العملية، فالاوّل لم يجد لها محلاً في نظرية البرهان انسياقاً مع موقف الفلاسفة المسلمين، والثاني لم يجد للاحكام العملية واقعاً في عالم التجربة الحسية.

رابعاً: ان البحث في المعرفة التصورية بحث خطير، ويلعب دوراً مصيرياً في المعرفة الانسانية عامة. وقد تنبه إليه السلف من الحكماء، واتجهت المدرسة التجريبية الحديثة إلى عده جوهر البحث الفلسفي، فعدت الدرس العقلي تحليلاً للغة.

والذي أريد تثبيته هنا هو ان البحث في طبيعة نشأة ونمو التصورات والمفاهيم ليس بحثاً يمكن لادوات البحث العقلي المجرد ان تكشف باطمئنان عن هذا الموضوع، الذي تلعب اللغة ونظامها دوراً رئيسياً فيه. أعتقد ان التجربة ومناهج البحث النفسي بالتعاضد مع مناهج العلوم اللغوية يمكنهما ان يلقيا الضوء على هذا الموضوع.

* * *

نعود إلى اشكالية انشائية الاحكام الاخلاقية وواقعيتها:

هناك اختلاف بين حقلي الاخلاق ونظرية المعرفة في استخدام اصطلاح (الواقعية)، فالواقعية في المعرفة تقابل المثالية، أي تلك النظريات التي أعطت لاحكام الذهن دوراً مستقلاً في تكوين وبناء المعرفة الانسانية. اما الواقعية فلها أكثر من استخدام; هناك من يطلق الواقعية في حقل الاخلاق على المذاهب التي تنظر إلى التشريعات الاخلاقية من زاوية قابليتها على التطبيق وعمليتها. وهناك من يضع الواقعية مقابل الاتجاهات التي تخرج الاخلاق من دائرة نظرية الصدق. وهناك من يطلق مصطلح الواقعية على الاتجاهات الطبيعية، التي لا تفرق بين الاحكام الاخلاقية والصفات التكوينية الطبيعية.

في هذا الضوء يجدر بنا ان نحدد مفهوم اصطلاحنا. نعني بالواقعية الاخلاقية الاتجاهات التي تتفق على اعطاء الاحكام الاخلاقية استقلالاً عن الاعتبار والمواضعة. وبهذايدخل (كَنْت) والمذهب الحدسي في زمرة الواقعية، ويدخل اتجاه مدرسة العقل الكلامية، وتخرج مدرسة الحكماء المسلمين والوضعية المنطقية، كما يخرج المذهب الاشعري الكلامي من زمره الواقعية.

اقترنت الواقعية بتحديد هوية الحكم العملي، وبتقرير اخبارية الاحكام العملية، وانها قضايا خبرية يصح وصفها بالصدق والكذب. فمنذ عصر (هيوم) اتجه البحث في حكمة الغرب إلى اخراج الاحكام العملية من دائرة البحث المعرفي، انطلاقاً من انها لا تخبر عن شيء. وقد جاءت المحاولات الفلسفية المدافعة عن اتجاه مدرسة العقل الكلامية لاثبات ان الاحكام العملية قضايا اخبارية، ومن ثم فهي جزء من نسيج الواقع والمعرفة. استجابة لاشكاليات العلاّمة الطباطبائي، التي تلتقي في النهاية مع مبدأ هيوم.

ولكي نضع اليد على الاثارات الاساسية في متابعتنا لهذا الموضوع نبدأ من (كَنْت):

الاحكام الاخلاقية لدى كنت هي أحكام العقل الخالص من أي خبرة، والعقل يقوم بحمل الواجب على الارادة العاقلة. فهي أحكام عقلية يُنشئها العقل ويحمّلها على الارادة. ولم تطرح ابحاث كَنْت اشكالية انشائية أو اخبارية هذه الاحكام، بل تجاوزها كما تجاوز اشكالية النظر إلى العقل كحاكم. وهذا أمر منسجم مع الموقف العام للرجل من المعرفة الانسانية، فهو يضع للعقل دوراً رئيسياً إلى جانب الحس ومعطياته في تركيب المعرفة بشكل عام.

لكن الامر لم يكن لدى مدرسة العقل الكلامية على هذا الحال، فقد أثيرت اشكالية مفهوم حكم العقل. وهل العقل حاكم أم كاشف؟ تجد الاشارة واضحة إلى هذه الاشكالية والموقف منها في نصوص القاضي عبد الجبار، حيث أكد ان إدراك العقل للحسن والقبح لا يعني ان العقل يصيّر الكذب قبيحاً أو الاحسان حسناً، فالتحسين والتقبيح ادراك وعلم، وطبيعته الكشف لا الحكم، "العلم يتعلق بالشيء على ما هو به، لا انه يصير كذلك بالعلم. كذلك الخبر الصدق. فالقول بان العقل يقبح أو يحسن، أو السمع، لا يصح إلاّ ان يراد انهما يدلان على ذلك من حال الحسن والقبح"(114).

أصر متأخروا رجال مدرسة العقل على كاشفية العقل لاحكام الحسن والصدق. وذهبوا إلى ان هذه الاحكام لا يقررها العقل، بل يكتشفها في عالم آخر، اطلقوا عليه عالم الواقع ونفس الامر، وذهب المتمرسون منهم إلى التأكيد على ان هذا العالم أشمل من عالمي الوجود الخارجي والوجود الذهني. وآثر السيد الصدر ان يطلق اصطلاح (لوح الواقع) على ما يشمل الوجود الخارجي والذهني وعالم نفس الامر.

لعل اشكالية تعميم الواجبات على الافعال الالهية هي التي اثارت البحث حول العقل ودوره في الكشف أو الحكم. لان القول بالتعميم لا يتلائم مع النظر إلى العقل الانساني حاكماً على الافعال الالهية. لكن نص القاضي عبد الجبار المتقدم يؤكد منحىً معرفياً ونظرة واقعية إلى الاحكام العملية، بوصفها جزءً من العلم والمعرفة. على ان متأخري رجال مدرسة العقل من علماء أصول الفقه الامامي أكدوا بشكل لامراء فيه على واقعية واخبارية الاحكام العملية، ضمن التأكيد على ان دور العقل هو الكشف لا الحكم.

لقد اقترنت النظرة الواقعية إلى الاحكام العملية باخبارية هذه الاحكام، إلى الحد الذي اعترض السيد الصدر على أستاذه السيد الخوئي، حينما ذهب الاخير إلى ان الحكماء المسلمين يعدون الاحكام العملية أموراً انشائية، اعترض مستغرباً نسبة أستاذه القول بالانشائية إلى الفلاسفة، كيف يمكن ذلك وهم يقولون بان المشهورات قضايا مقرونة بالتصديق الجازم... ومن الواضح ان فرض التصديق الجازم يستلزم افتراض القضية خبرية(115). أي ان القول بانشائية الحكم العملي يعادل اعتباريته وعدم واقعيته. والواقعية في نظر الصدر تعادل التكوينية، أي ان التعامل السليم مع قضايا الحسن والقبح وأحكام العقل العملي يقتضينا ان ننظر إليها بوصفها واقعية تكوينية.

ان اتجاه الصدر في عد الاحكام العملية الاولية أحكاماً واقعية تكوينية لا يعني القول بمقالة المذهب الطبيعي، وعد الحسن والقبح والالزام الاخلاقي صفة طبيعية قائمة في الافعال; يمكن ان تجد في نصوص بعض رجال مدرسة العقل الكلامية ما يوحي بذلك، لكن اتجاه الصدر في هذا الموضوع جزء من موقف معرفي يقرر فيه ان المبادئ البديهية عامة ثابتة ثبوتاً واقعياً بغض النظر عن إدراك العقل لها، أي ان العقل يتجاوز نفسه ويدرك ثبوت هذه المبادئ وجد عقل أم لم يوجد، وكان هناك وجود وتحقق في العالم أم لم يكن; ومن هنا قال ان هذه المبادئ ثابتة في عالم الواقع، الذي هو أوسع من لوح الوجود.

لا يهمنا هنا الدخول في تفاصيل البحث المعرفي النظري، انما أشير إلى اشكالية من اشكاليات نظرية (عالم الواقع)، وهي: ان عالم الواقع بعد ان يكون جزءً منه لا يحتل في منظومة الوجود موقعاً، فهل يتعدى عالم الذهن، أي هل يكون أمراً آخر سوى الفرض الذهني، ومن ثم يكون جزءً من الوجود الذهني؟ إذا تجاوزنا اشكالية عالم الواقع، واتخذناه مصادرة، وعدنا إلى موضوع بحثنا، فهل تعني واقعية الاحكام العملية انها قضايا اخبارية؟

لكي تتضح صورة الموقف من الاستفهام الاخير نتناول البحث في ضوء مفهومين لاصطلاح (الواقعية)، المفهوم الاوّل ان العقل كاشف عن الحكم الاخلاقي الثابت في عالم الواقع، المفهوم الثاني ان الحكم الاخلاقي المدرك ببداهة العقل صادق على عالم الوجود الموضوعي، وليس حكماً ذهنياً خالصاً.

ان الواقعية بالمفهوم الاوّل لا تحتم علينا افتراض ما يكشف عنه العقل كأمر ثابت قضية خبرية، يمكن وصفها بالصدق أو الكذب.

طالما آمنا بان الاحكام الاخلاقية لا تتعدى الاوامر والنواهي، وان الحكم العملي يرجع إلى "ما ينبغي وما لا ينبغي فعله"، فلا مانع من القول بان الثابت في عالم الواقع الذي يدركه العقل البديهي هو ان "الكذب لا ينبغي فعله" وان "الوفاء بالعهد ينبغي فعله". ليس هناك أي مانع من وجهة نظر المنطق والفلسفة من دعوى ثبوت هذه الاحكام في عالم الواقع، وهي أحكام انشائية لا توصف بالصدق أو الكذب. والتصديق بثبوتها في عالم الواقع أو في عالم الاعتبار والانشاء لا يحور مضمونها الجوهري، ويصيّرها قضايا اخبارية.

أما الواقعية بالمفهوم الثاني فتواجه البحث باشكالية من لون آخر. لان الايمان بان الحكم الاخلاقي واقعي على غرار واقعية قانون العلية يعني ان الجملة الاخلاقية تحكي عن واقع قائم في عالم الافعال الخارجية، وان جملة "الكذب لا ينبغي فعله" تصدق على عالم الخارج. ومن هنا يضطر الواقعيون اما إلى اعطاء مفهوم "الالزام" صبغة خارجية، وتحوير المدرك العقلي، والقول بان العقل يدرك الزام بالفعل أو الترك، أي انه يدرك جملة خبرية. أو الذهاب إلى ان المدرك هو حسن أو قبح الفعل، والحسن والقبح صفات قائمة في الافعال يدركها العقل بقوة الحدس.

 

وهنا نلاحظ:

ان الالزام بالفعل يبقى مفهوماً مستعصياً على الخارجية مهما حاولنا التحوير. وان تغيير صيغة المدرك العقلي لا يغير من مضمونه الحقيقي، الذي هو طلب الفعل، الامر والنهي. ثم إذا سلمنا بان المدرك هو جملة خبرية يصح وصفها بالصدق أو الكذب فسوف نواجه الاشكالية المستعصية، وهي ان عالم الافعال الخارجية يكذّب كل الجمل الاخلاقية البديهية، ولايضاح هذه الفكرة نقول:

ان المدرك العقلي البديهي يجب أن يكون حكماً كلياً لا يقبل التخصيص، لانه عقلي. وهذه القاعدة صادقة على كل أحكام العقل الاولي إذا أردنا لها البداهة والقبلية. حينئذ يكون لدينا حكم عقلي أولي مفاده: كل كذب محظور، وكل وفاء بالعهد واجب; بينا تصدق لدى كل عقول الادميين القضية السالبة الجزئية ليس كل كذب محظور، وليس كل وفاء بالعهد واجب، بحكم ملاحظة عالم الافعال الخارجية.

حينئذ يقرر الحكم العقلي البديهي قاعدة كلية، بينا لا تصدق هذه القاعدة على عالم الافعال الخارجية، والفرض ان الاحكام العملية تخبر عن واقع الافعال الخارجية، وبهذا وسمناها بالواقعية! ومن هنا تصبح اخبارية الاحكام العملية معادلة لكذب هذه الاحكام وعدم واقعيتها.

هذه الاشكالية هي جوهر البحث في الاحكام العملية. وأعتقد ان هذه الاشكالية هي التي حدت بالحكماء إلى التمييز بين الحكم النظري والحكم العملي، وهي نقطة انطلاق التمييز بين أحكام القيمة وأحكام الواقع في فلسفة الغرب.

إذا أردنا ان نحتفظ للحكمة العملية وللاخلاق بأساسها العقلي فلا بد من التفرقة بين أحكام الواجب وأحكام الوجود. ان هذة التفرقة أفضت بكثير من الفلاسفة إلى الغاء الاساس العقلي للاخلاق، لكنها من وجهة نظر الباحث الاساس المنطقي للخروج بتصور منسجم لنظرية عقلية في الاخلاق، تحفظ لمبادئ الاخلاق حكمها البديهي وتؤمن بان شرائع العمل ومذاهب الفضيلة تحكم بأحكام اعتبارية لا تستعصي على التخصيص، وليس لها من الثبات والدوام ما للاحكام البديهية من ثبات ودوام. ما لم نفرق بين نسق الاحكام العملية والاحكام النظرية لا نستطيع إلاّ القول باعتبارية هذه الاحكام. وأنا أعتقد ان القول باعتبارية هذه الاحكام باسرها يعادل الغاء الاخلاق، ويتعذر معها اثبات أخلاقية الكائن الانساني.