تطبيقات العقل العملي في علم أصول الفقه:

أشرت إلى أن العقل العملي استخدم في البحث الاصولي استخدامين رئيسيين:

 

الاوّل: استخدم كأداة إثبات عامة في كثير من قواعد الحجج والادلة الاصولية، بدءاً من مبادئ العلم، وانتهاءً بصلب مسائله.

 

الثاني: استخدم كأداة إثبات متممة في القاعدة المشهورة بقاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع.

وقد تابع الاستاذ الصدر سنة البحث الاصولي في هذا المجال. ونحن هنا لا يسعنا متابعة الصدر في استخدام العقل العملي في البحث الاصولي برمته، فهذا ما تكفلته دراستنا "المنطلقات العقلية للبحث في علم أصول الفقه". بل نقتصر على انتخاب نماذج مختارة، وأُرجح أن نبدأ بحجية القطع، ثم نردفها ببحث "التجري"، ونقف أخيراً عند "قاعدة الملازمة".

 

التطبيق الاوّل: حجية القطع

طرح هذا البحث أوّل مرة في دائرة مدرسة الوحيد البهبهاني،

وكان استجابة لمتطلبات الصراع الاخباري الاصولي في إطار المدرسة الامامية. هذا الصراع الذي أذكى جذوته الامين الاسترابادي، فاثار فيما أثار شكوكاً في جدوى استخدام العقل كدليل من أدلة إثبات الاحكام الشرعية، فكان البحث عن أساس يقطع دابر هذا الشك ضرورة من الضرورات التي تعهدت بها مدرسة الوحيد البهبهاني. فقطعوا بقاعدة حجية اليقين دابر الشك باليقين العقلي.

وقد تبلورت هذه الحجية لتضحى في مصاف الادلة البرهانية، التي يستحيل الشك بها بفضل جهود واجتهاد عميد مدرسة الوحيد الشيخ مرتضى الانصاري. لكن هذا الاساس الاصولي لم تهزه رياح الخصوم، بل تعرض لهزات ود من قبل طلاب مدرسة الوحيد كالشيخ جعفر كاشف الغطاء، ومن بعده الشيخ محمّد حسين الاصفهاني صاحب الفصول. فقد كان هاجس الخطر الاخباري يحيط بهذا البحث، حتى أصبح في ظل دراسات الشيخ الانصاري مسلمة بديهية وقضية تحليلية مصونة بمبدإ الهوية الذاتية وقانون استحالة اجتماع النقضين.

لكن "حجية القطع" لم يصفو لها العيش في أفق السيد محمّد باقر الصدر التحليلي، إذ تعرضت لجرح عميق بمبضع الصدر العقلي. وأنا لم أجد باحثاً أصولياً في تاريخ البحث الاصولي الحديث أكثر نزاهة وموضوعية من السيد محمّد باقر الصدر وهو يعالج بأفق رحيب ورباطة جأش المقولات، التي أفرزها الصرع الاصولي الاخباري. وكان حقّاً أن يكون الامر كما فعل السيد الصدر.

إذ إن الصراع الاصولي الاخباري في جوهره صراع عقلي مشروع، لكن خيبتنا أن يتحول البراز الفكري إلى مبارزة اجتماعية أو سياسية تفتقد في كثير من الاحيان لياقات الفضيلة، فتتحول إلى عصبية وهاجس، ينمو على طحالبها الفساد الفكري. فأنا أعتقد أن الكشفية واتجاهات الشيخ أحمد الاحسائي هي وليد مشوّه لهذا الصراع، أفاد من نقاط ضعفه، فأضحى كساحاً عقلياً له قطع القطاع وحجية الكشف، وله الحقّ بالنمو على قاعدة الخلاء العقيدي الذي خلع سلاحه الاتجاه الاخباري.

يهمنا هنا أن نقرأ "حجية القطع" في أفق السيد محمّد باقر الصدر:

ماذا تعني حجية القطع؟

قررت بحوث الشيخ الانصاري أن حجية القطع تعني كاشفيته، وكاشفيته أمر ذاتي له، فالحجية أمر ذاتي لا تناله يد الجعل بالاثبات أو النفي; لان الذاتي لا يعلل. وفي ضوء هذا التقرير تضحى قاعدة حجية القطع قاعدة برهانية ضرورية لها ما لقواعد البرهان من بداهة وذاتية(145).

لكن أجيال الخلف من تلامذة مدرسة الانصاري ومن تلمّذ على يدهم، أخذوا شيئاً فشيئاً في تمحيص "حجية القطع" كما طرحها الانصاري، فلاحظوا أن الحجية لا تعني الكاشفية، وأن اليقين لا يعني الكشف. فاليقين هو انكشاف المتيقّن لدى المتيقِّن، واليقين ليس كشفاً عن الواقع بالضرورة. ثم لاحظوا ان الحجية هي حكم العقل العملي بوجوب الطاعة (التنجيز والتعذير)، ولا علاقة لها بمبدإ الهوية الذاتية. والمبحوث عنه في علم أصول الفقه هو القطع بأوامر المشرع تعالى(146).

ومن هنا اتّجه البحث الاصولي إلى صياغة جديدة لقاعدة حجية القطع، فقرّروا: أن العقل يحكم بحسن متابعة القطع بأوامر الشارع المقدس، ويحكم بقبح مخالفته; لان طاعة المولى تعالى عدل ومخالفته ظلم، والعقل العملي يحكم بوجوب العدل وقبح الظلم. لكن البحث الاصولي رغم هذه الصياغة المعدلة بقي ينأى تحت وطأة تركة الانصاري والخلط بين الكاشفية والحجية، وبين الكشف واليقين.

جاءت بحوث سيدنا الصدر لتضع حدّاً فاصلاً لكثير من التشويش، الذي عانى منه البحث الاصولي في هذا الموضوع فقررت:

أ ـ أن الحجية لها معنيان اصطلاحيان، أحدهما منطقي والاخر أصولي. والحجية المنطقية يجب أن تطلب من بحوث المنطق ونظرية المعرفة. أما الحجية التي يبحث عنها الاصولي فهي ما يحكم العقل بوجوب الطاعة فيه. لان الاصولي يبحث عن الاوامر المولوية الالهية.

ب ـ أن الاستدلال على حجية القطع بقاعدة حسن العدل وقبح الظلم استدلال غير منهجي; لان قاعدة قبح الظلم أخذ في موضوعها عنوان الظلم وهو عبارة عن سلب ذي الحقّ حقّه، ففي المرتبة السابقة لا بد من افتراض حقّ الامر على المأمور لكي تفترض مخالفته سلباً لحقّه، وإلاّ لم يكن ظلماً، فإن أريد إثبات هذا الحقّ بقاعدة قبح الظلم فهذا دور، وإن اريد تطبيق هذه القاعدة بعد افتراض وجود هذا الحقّ فهذا حشو من الكلام.

جـ ـ إذن أساس حجية القطع بأوامر الله هو قاعدة حقّ طاعة الله، ولا بد من فحص هذا الحقّ.

د ـ "حقّ الطاعة" مدرك مستقل من مدركات العقل العملي. فالعقل العملي كما يدرك وجوب شكر المنعم وغيرها من القواعد المتقررة في لوح الواقع، يدرك أيضاً قاعدة وجوب طاعة الله. ثم إن هذا الوجوب العقلي ثابت في التكاليف الالهية التي يتيقن بها المكلفون. بل حقّ طاعة الله ووجوب امتثال تكاليفه ثابت في كلّ تكليف محتمل، ولا يسقط هذا الحقّ والواجب العقلي ما لم يتيقن المكلف بعدم التكليف الالهي.

قال: "إن حجية القطع بمعنى التنجيز والتعذير ليس إلاّ عبارة عما يتحقّق كبراه بفرض مولوية المولى، وصغراه بنفس القطع بحكم المولى، والنتيجة تتم بتمامية الصغرى والكبرى...

ثم إن المولوية وحقّ الطاعة تكون على ثلاثة أقسام:

1 ـ المولوية الذاتية الثابتة بلا جعل واعتبار والذي هو أمر واقعي على حدّ واقعيات لوح الواقع، وهذه مخصوصة بالله ـ تعالى ـ بحكم مالكيته لنا الثابتة بملاك خالقيته، وهذا مطلب ندركه بقطع النظر عن مسألة شكر المنعم... فإن ثبوت الحقّ بملاك مالكيته شيء، وثبوته بملاك شكر المنعم شيء آخر. بل هذا حذوه حذو سيادته التكوينية، فكما أن إرادته التكوينية نافذة في الكون، كذلك ارادته التشريعية نافذة عقلاً على المخلوقين.

ثم إن المولوية الاولى دائماً يحقّق القطع صغراها الوجدانية; لان ثبوت القطع لدى القاطع وجداني، وثبوت مولوية المولى الحقيقي في موارد القطع بديهي أيضاً; لانه القدر المتيقن من حدود هذه المولوية"(147).

ولدي هنا مجموعة إبهامات وأسئلة، أحاول أن استوضحها:

فهل المولوية تعادل حقّ الطاعة؟ وهل الحجية مفهوم آخر غير وجوب الطاعة؟

بدءاً ـ ولكي لا نضيع في زحمة الالفاظ ـ لا بد من أن نرجع إلى الوراء قليلاً، ونتذكر أننا نبحث عن العقل العملي ومدركاته، هذه المدركات التي اعتبرها الصدر ثوابت واقعية قائمة في لوح الواقع، والتي تقضي بالواجبات، وتحكم بما ينبغي وما لا ينبغي، وتتضمن ضرورة إيجاد الفعل أخلاقياً. ويدركها العقل إدراكاً أولياً قبلياً.

 

ثم نأتي على تحديد واضح لمصطلحات البحث:

المولى: مَن له الولاية والسلطنة.

حقّ الطاعة: وجوب الطاعة.

الحجية: وجوب الامتثال (التنجيز)، وسقوط وجوب الامتثال "التعذير".

نعود لنلاحظ أن النصّ المتقدم يثير بعض المشكلات:

إن كبرى حقّ طاعة الله ووجوب امتثال تكاليفه، لا تصلح كبرى تنتج التنجيز.

إن كبرى وجوب امتثال تكاليف الله لا تصلح لاثبات التعذير.

لعلّ هناك من يقول: إن حقّ الطاعة كمدرك عقلي أولي ثابت لتكاليف الله الواقعية.

يأتي النصّ اللاحقّ ليلقي الضوء على هذه المشكلات وعلاجها: "إن المشهور ميّزوا بين أمرين مولوية المولى ومنجزية أحكامه فكأنه يوجد عندهم بابان: أحدهما باب مولوية المولى الواقعية، وهي عندهم أمر واقعي مفروغ عنه ولا نزاع فيه... وباب آخر هو باب منجزية القطع وحجيته... وقد اتضح مما سبق أن هذا المنهج غير صحيح، وأن المنجزية التي جعلوها باباً ثانياً إنما هي من لوازم أن يكون للمولى حقّ الطاعة على العبد في مورد التنجيز، وأيّ تبعيض عقلي في المنجزية بحسب الحقيقة تبعيض في المولوية، فلا بد من جعل منهج البحث ابتداءً عن دائرة مولوية المولى وأنها بأي مقدار، وهنا فرضيات:

1 ـ أن تكون مولوية المولى أمراً واقعياً موضوعها واقع التكليف بقطع النظر عن الانكشاف ودرجته، وهذا باطل جزماً; لانه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجزاً ومخالفته عصياناً، وهو خلف معذرية القطع وواضح البطلان.

2 ـ أن يكون حقّ الطاعة في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلفين من تكاليف المولى، وهذا هو روح موقف المشهور الذي يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع والوصول وموارد الشك، ولكنا نرى بطلان هذه الفرضية أيضاً; لانا نرى أن مولوية المولى في أتمّ مراتب المولوية على حدّ سائر صفاته، وحقّه في الطاعة على العباد أكبر حقّ لانه ناشئ من المملوكية والعبودية الحقيقية.

3 ـ المولوية في حدود ما لم يقطع بالعدم...

إن حقّ الطاعة لا يشمل موارد القطع بالترخيص، وليس هذا تبعيضاً في مولوية المولى بل تخصصاً، وذلك باعتبار ما سوف يأتي من استحالة محركية المولوية في مورد القطع بالترخيص"(148).

أجاب في الفرض الاوّل على المشكلة الاولى، لكن الملاحظ أن البحث لا يزال عن أساس حجية القطع التي فسّرها بالتنجيز والتعذير، فقال: إن الاساس لهذه الحجية هو حقّ الطاعة، ثم فرض أن يكون حقّ الطاعة حقّاً واقعياً ثابتاً للتكاليف الالهية الواقعية، فنقض على هذا الفرض بحجية القطع (معذريته)!

لكننا إذا عدنا إلى الفقرة الاخيرة من النصّ نلاحظه يقرر استحالة محركية المولوية في موارد اليقين بالترخيص، أي لو كان هناك حكم الهي واقعي الزامي وقطعنا بان المورد مورد ترخيص فسوف يستحيل بقاء حقّ الطاعة قائماً; لاستحالة جعل حكم على خلاف الحكم المقطوع به.

نلاحظ: أن أساس معذرية القطع فيما لو تيقنا بحكم مخالف للارادة التشريعية الواقعية هو استحالة. وهذه الاستحالة هي حكم نظري، دون شك. وهذا الحكم النظري، حكم بعدي، أدركته عقول علماء الاصول بعد سلسلة من البحوث البرهانية والاستدلالية. هنا نطرح استفهامين:

 

اولاً: أن الحجية (المعذرية) ليست حكم العقل العملي بسقوط التكليف، لان أساسها ليس حقّ الطاعة وحكم العقل العملي بوجوب طاعة أوامر الله; لان المورد يخلو من حكم إلزامي.

 

ثانياً: أن حكم العقل العملي القبلي (وجوب طاعة الله) سوف لا يشمل تكاليفه الواقعية، في حال قطع المكلف بخلاف الواقع، ودليلنا أن المشرع يستحيل عليه تحريك المكلف. وهذا يعني ارتهان المدرك القبلي العقلي بشؤون عالم التشريع والاعتبار، وهو خلف عقليته وقبليته!

نعود إلى التنجيز، الذي أقامه الصدر على أساس حقّ الطاعة، وعدّه لازماً لهذا الحقّ; لنرى مصير هذه المقولة؟

قرر: أن حقّ الطاعة شامل لكلّ حالات المكلف العلمية بالتكاليف، ما لم يقطع بالخلاف. وهذا يعني أن العقل العملي ـ حسب وجدان السيد الشهيد ـ يقضي بوجوب طاعة التكاليف الالهية المتيقنة والمحتملة بأي درجة من درجات الاحتمال.

نأتي هنا لنشكل القياس الذي أشار إليه السيد الصدر في نص سابق، لنرى كيف تنتج قاعدة "حقّ الطاعة" التنجيز وحجية القطع:

الكبرى: تجب طاعة التكاليف الالهية المعلومة والمحتملة.

أما الصغرى فقال: "إنها نفس القطع بحكم المولى". فإن اراد القطع بهذا الحكم أو ذاك فسوف تكون الكبرى حكماً عقلياً عملياً قبلياً والصغرى مدركاً نظرياً، كما أن النتيجة تكون حكماً عقلياً عملياً. وهذا أمر غير معقول; لان تطبيق القاعدة الكلية على مصاديقها لا يمكن أن يكون نفس القاعدة، فالقاعدة العقلية النظرية أو العملية أمر، وتطبيقها على مصاديقها أمر آخر، فالقاعدة التي تقول باستحالة اجتماع النقيضين أمر، واكتشافنا للتناقض أمر آخر، والحال كذلك بالنسبة إلى القاعدة العملية العقلية التي تقول "بوجوب طاعة التكليف الالهي المقطوع به" فهي أمر، وإن هذا تكليف إلهي مقطوع به أمر آخر.

نعم يمكن أن يكون المقصود أساساً هو أن العقل يدرك ابتداء طاعة الله في تكاليفه المقطوعة والمحتملة، وبما أن القطع بالتكليف الالهي موضوع هذه القاعدة فتكون الحجية بمعنى التنجيز، وحكم العقل بوجوب الطاعة هي عين مفهوم حقّ الطاعة وليست أمراً مستنتجاً منه.

يهمنا أن نؤكد هنا أن أهم ملاحظة نسجلها على مجمل البحث في حقّ الطاعة، هو أن هذا الحقّ أو قُل هذا المدرك العقلي القبلي جعله الصدر مقيداً بحالات المكلفين وبشروط عالم الخارج. فنحن لو كنا نعيش عالماً لا غبار فيه على تكاليف المولى، فهل نحتاج أن نقول إن حقَّ الطاعة لا يتعلق بتكاليف المولى الواقعية؟

لو كنا نعيش عالم الملائكة ـ وهم مشمولون بالقاعدة العقلية لانها عامة مطلقة ـ الذين لا تتعارض علومهم مع واقع التكليف، فهل نحتاج إلى القول: بأن حقَّ الطاعة شامل للتكاليف المحتملة أو مقتصر على التكاليف المعلومة؟

وسنقف بشكل أوسع عند هذا الموضوع في الفقرة اللاحقة من هذا البحث، ونرى مفارقات هذا التقييد ونتائجه.

وفي خاتمة البحث عن حجية القطع نشير إلى أن السيد الصدر استخدم في الدورة الاولى بدلاً من عبارة "نفس القطع بحكم المولى" عبارة القطع الذي هو حجة ذاتية، بالمعنى المنطقي.

مضافاً إلى أنه ناقش في تلك الدورة موضوع "قطع القطاع" وقد ألغاه تماماً في الدورة الثانية. ولنقف باختصار عند معطيات الدورة الاولى في هذين الموضوعين:

 

حجية اليقين المنطقية:

قال: "ان حجية القطع بالمعنى المنطقي ذاتية له"(149) وقد تكرر منه هذا النصّ في ثنايا البحث. قاصداً من الحجية صحة الاعتماد على اليقين في مقام اكتشاف الواقع.

وإذا استخدمنا مصطلحات الاستاذ الصدر فسنصنف اليقين إلى ثلاثة ألوان:

اليقين المنطقي: وهو اليقين الذي يتكأ على مبادئ المنطق الصوري، ويسوغ الاعتماد عليه "مبدأ استحالة اجتماع النقيضين".

اليقين الموضوعي: وهو اليقين التجريبي القائم على أساس تجميع القرائن وحساب الاحتمالات، وهذا اليقين لم يدّع إمكانه للتجربة والاستقراء الناقص سوى السيد الصدر. وقيمة هذا اليقين وصحة الاعتماد عليه ترتهن بسلامة مرحلته الاستنباطية في الحدّ الادنى، ولا يتمتع بقيمة ذاتية.

اليقين الذاتي: وهو اليقين القائم على الحالة السايكولوجية للفرد، ولا يتكأ على مسوغات موضوعية، وهو ما أسماه علماء أصول الفقه المحدثون "قطع القطاع". وهذا اليقين مرفوض من جميع مدارس العلم وفلسفته. ولا يدعي أحد من أهل العلم حجيةً علمية لمثل هذا اليقين.

فالحجية العلمية لدى العلماء يكتسبها اليقين على أساس مستنده ودليله، وهم يعملون على قاعدة قُل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

قطع القطاع: لما اتجه السيد الصدر إلى عدِّ حجية القطع بتكاليف الله أمراً ذاتياً، وأن وجوب طاعة الله في تكاليفه المقطوعة ثابت ثبوتاً عقلياً، اتجه أيضاً إلى الايمان بحجية قطع القطاع (اليقين الذاتي) أصولياً.

لكنه أشار إلى حالة الفرد الذي يسلك سلوكاً غير طبيعي في يقينياته، ويضحى قطاعاً بالترخيص. ثم تساءل:

"هل يجوز للعبد تفويت العلم بالاحكام الالزامية...؟ وتحقيق الكلام في ذلك ان هذا مربوط بمدى سعة دائرة مولوية المولى وضيقه، الذي لا يمكن إدراكه إلاّ بالوجدان والعقل العملي، فإن قلنا: إن حقّ المولى إنما هو إطاعة الاحكام الواصلة مثلاً، وليس من حقوقه عدم إخراج العبد نفسه عن دائرة التنجيز بالشكل الذي يؤدي إلى تفويت أغراضه اللزومية، إذن فلا يجب عليه التحرز عن قطوع من هذا القبيل، وإن قلنا: إن دائرة حقّ المولى قد إتسعت لتحرز من هذا القبيل ـ كما هو الصحيح ـ إذن وجب عليه ذلك"(150).

نحاول صياغة القضية العقلية القاضية بحقّ الطاعة في ضوء معطيات الدروس المتقدمة: "إن العقل العملي يدرك بشكل بديهي: وجوب طاعة الله في تكاليفه المعلومة، على أن يتحرى المكلف العلم الذي لا يضيع هذه التكاليف".

وسؤالنا هنا: إذا تحرى المكلف العلم الذي يُضيّع هذه التكاليف، وحصل له انكشافٌ يقيني ذاتي بالترخيص، فماذا يحكم العقل؟

جواب الصدر واضح جداً وهو: أن العقل يحكم بالمعذرية، وأن حق الطاعة ينحسر حينئذ عن هذا الفرض; لاستحالة محركية الوجوب العقلي العملي: كما أن العقل العملي يحكم باستحقاق عقاب هذا المكلف; لانه تجاوز حقّ الطاعة في عدم تحري العلم الذي لا يفوّت التكاليف الالهية.

ملاحظاتنا باختصار:

1 ـ إن هذه الالية المطروحة لاحكام العقل المجرّد مستوحاة بدون ريب من آلية الفهم الفقهي والاصولي الحديث في الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي، وغيرها من بحوث الفقه والشريعة. وإذا كانت معقولة في عالم الشريعة واعتبارات المشرع فأنا لا أعتقد أن هذا التركيب الاصطناعي للعقل البديهي أمر يتناسب مع طبيعة مدركات هذا العقل، ولا يتناسب مع بداهتها ووضوحها، ولا ينسجم مع قبليتها وأوليتها.

2 ـ إن استحقاق العقاب والثواب على مخالفة التكليف شأن من شؤون الشريعة الاسلاميّة ومخالفة التكليف كسلوك في عالم الامتثال، عالم المتزاحمات بين متطلبات العقل ومتطلبات الواقع، وأنّى للعقل الاولي القبلي أن يدلي برأيه في هذا الميدان، الذي يستدعي مجموعة معارف تصديقية؟ وأنّى للعقل القبلي المجرّد عن الخبرة التشريعية أن يحكم بأن هذا المكلف فوّت غرضاً الزاماً وتكليفاً الهياً؟ وكيف يمكن للعقل القبلي أن يحكم بأن هذا المكلف تحرى السبيل المقبول لتحصيل العلم، ومن ثم لا يدينه في مخالفة حكم العقل بعدم تفويت التكاليف الالهية؟ إن تحديد سبل المعرفة التي تضمن اكتشافاً مشروعاً لاحكام الشرع او أحكام الواقع ليست شأنا من شؤون العقل العملي القبلي، بل هي من صميم مهمات العقل في أحكامه المنطقية والفلسفية، واجراءاته التنظيمية الاعتبارية. ولا تتوقف أحكام العقل العملي القبلي على معرفة هذه السبل لا تصوراً ولا تصديقاً; لانها ليست موضوعاً من موضوعات أحكامه.

 

التطبيق الثاني: التجري

هو الاقدام على المعصية عن علم خاطئ، كما لو أقدم على شرب المائع لعلمه بأنه خمر فتبين أنه ماء.

والسؤال الذي يطرحه علماء الاصول هنا هو: هل هذا الاقدام قبيح، وصغرى من صغريات حكم العقل العملي بوجوب طاعة الله أم لا؟

ويتساءلون بعد ذلك: هل يستحق فاعله العقاب أم لا؟

ثم أخيراً يحاولون إثبات الحرمة الشرعية، وقد جاءت قاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع إحدى وسائل الاثبات في هذا الموضوع.

وقد أجاب الاستاذ الصدر عن الاستفهام الاوّل على قاعدة فهمه لمبدإ حقّ الطاعة. حيث ذهب إلى أن موضوع هذا الحقّ هو إحراز التكليف، ثم ألقى ضوءاً جديداً على هذا الحقّ قائلاً: "وهذا الحقّ الذاتي ليس شأنه شأن الحقوق الاخرى، التي لها واقع محفوظ بقطع النظر عن القطع والشك نظير الحقوق الاخرى والتكاليف الشرعية، بل يكون للانكشاف والقطع دخل فيه".

وقد أكّد بحثنا نقطةً أساسية في هذا الموضوع، وهي أننا إذا ذهبنا إلى أن "حقّ الطاعة" و"وجوب امتثال الاوامر الالهية" حكم من أحكام العقل العملي الثابتة منذ الازل، فلا يمكن أن نعلق هذا الحكم العقلي القبلي على حالات المكلفين من العلم والجهل، ولا يصح أن نربطه بملابسات عالم الخارج.

غير أن سيدنا الصدر اسعفنا في طي إجابته عن السؤال الثاني (هل يستحق المتجري العقاب؟) بتحليل تضمن فكرة جوهرية تضع يدنا على أساس المشكلة، حيث أفاد:

"أما الامور الواقعية نفس الامرية فليست إلاّ مطلباً واحداً، ولا يعقل أخذ العلم بها في ثبوتها، بل لا بد من افتراض واقعيتها وثبوتها مع قطع النظر عن العلم بها"(151).

هذا هو أساس فهمنا لاحكام العقل العملي ومدركاته الواقعية، لكننا نتساءل: كيف اصبح حقّ الطاعة، أو قُل وجوب امتثال التكاليف الالهية مشروطاً بالعلم أو احتمال هذه التكاليف؟ إذ أن هذا الوجوب ثابت مع قطع النظر عن العلم بالتكليف أو عدمه.

نلاحظ أن السيد الشهيد يطرح في سياق التحليل فكرةً أخرى تفصل بين كبرى العقل العملي وصغريات هذا العقل. فالعلم بالكبرى لا يعقل أن يكون مأخوذاً في موضوع هذه القضيه، لكن العلم بالصغرى يعقل أن يكون مأخوذاً في موضوع الحكم بالكبرى. وسنعالج فيما يلي هذا الموضوع معالجة شاملة.

هل يستحق فاعل التجري العقاب أم لا؟

أجاب الصدر: "ان هنا مطلبين:

أحدهما ـ حسن الفعل وقبحه، والاخر: استحقاق العقاب. وقد يختلط أحدهما بالاخر، فيتصور أن أحدهما عين الاخر، فالقبح ما يستحق فاعله الذم والعقاب، والحسن ما يستحق عليه المدح والثواب إلاّ أن هذا خطأ، فإن الحسن والقبح معناهما ما ينبغي أن يقع وما لا ينبغي كأمرين واقعيين تكوينيين من دون جاعل، وحينئذ تارة يطبق ذلك على فعل الانسان نفسه، فيقال: إنه ينبغي في نفسه أولاً ينبغي، وأخرى يطبق على فعل الاخرين ومواقفهم تجاه فاعل القبيح، فيقال: إن عقابه أو ذمه مما ينبغي أو لا ينبغي، فاستحقاق العقاب والثواب تطبيق آخر لنفس الامر الواقعي المدرك على مواقف الاخرين تجاه فاعل الفعل الحسن أو القبيح، فهناك قضيتان لا قضية واحدة"(152).

من الواضح في ضوء هذا النصّ أن السيد الصدر يحفظ لقضية "استحقاق العقاب والثواب على فعل القبيح" طابعها العقلي العملي، لكن هذا النصّ يوحي بأن المدرك العملي هو مفهوم الواجب فقط "ما ينبغي وما لا ينبغي"، لكنه خلاف ما أكدته نصوص الاستاذ الكثيرة من أن العقل العملي لا يدرك "قبح القبيح" وإنما يدرك قبح الافعال كقبح الكذب وقبح الخيانة، ووجوب الطاعة...

وعلى أساس القاعدة التي طرحها النصّ المتقدم حاول أستاذنا الصدر أن يوضح متى يثبت القبح ومتى يثبت استحقاق العقاب، بوصفهما مدركين مستقلين من مدركات العقل العملي، فأفاد:

أن الخطأ الذي يقع في السلوك إما أن ينشأ جراء الخطأ في كبرى القاعدة العملية وإما أن يقع في الصغرى، وفي كلا الحالين إما أن يكون الخطأ بنحو التوسعة في المورد وإما أن يكون بنحو التضييق فيه:

1 ـ الخطأ في الكبرى بنحو التضييق: كمن يعصي الله في موارد لانه لا يعتقد بأصل قاعدة حقّ الطاعة، أو لانه لا يعتقد بها في موارد الشبهات وحالات احتمال التكليف.

2 ـ الخطأ في الكبرى بنحو التوسعة: كمن يعتقد بأن للجار حقّ الطاعة ويعصي الجار، رغم اعتقاده الخاطئ بوجود حقّ للطاعة ثابت للجار.

3 ـ الخطأ في الصغرى بنحو التضييق: كمن لا يشكر المنعم لانه يعتقد أنه ليس المنعم. أو كمن يرتكب الحرام لانه معتقد بأنه ليس حراماً.

4 ـ الخطأ في الصغرى بنحو التوسعة: كمن لا يشكر من يعتقد بأنه المنعم وهو ليس بمنعم واقعاً، أو كمن يقدم على قتل شخص باعتقاد أنه بريء، ثم يتبين أنه يستحق القتل.

لاحظ السيد الشهيد أنه:

1 ـ في الحالة الاولى يثبت القبح، ولكن لا يثبت استحقاق العقاب.

2 ـ في الحالة الثانية لا يثبت القبح الواقعي لانه ليس مقيداً بالعلم، بل يثبت قبح طولي على عنوان الاقدام على مخالفة مولاه. كما يثبت العقاب.

3 ـ لا يثبت قبح ولا عقاب لان العلم في الصغرى مأخوذ في موضوع الحكم بقبح الفعل.

4 ـ يثبت قبح وعقاب لان العلم مأخوذ في موضوع الحكم بالقبح.

يفضي هذا التحليل إلى نتائج غريبة جداً ومفارقات تستدعي الباحث أن يفتش عن سرّ هذه المفارقات، الذي يكمن ـ كما لاحظنا ـ في الخلط بين مدركات العقل العملي وحقائق عالم الواقع، وبين مدركات عالم الخارج، الخلط بين ميدان العقل القبلي المحض وبين ميدان العقل البعدي المشوب بالخبرة والتجربة. دعونا نقف عند هذا التحليل لنرى سلامة ما ندعيه:

 

اولاً: لنأخذ الخطأ في الكبرى بنحو التضييق، ولنلاحظ ما قرره السيد الاستاذ:

إن العلم والجهل وحالات المكلفين لا علاقة لها بثبوت حقائق عالم الواقع، وهذا صحيح تماماً. لكن ما هو مصير استحقاق العقاب والثواب؟ لقد قرر آنفاً أنه مدرك من مدركات العقل العملي وأن السؤال هو: هل يجب عقاب المخطئ ومرتكب القبيح أم لا؟ وطبعاً الوجوب في الاستفهام هو الوجوب العقلي القبلي المحض.

نلاحظ أنه يقرر أن المخطئ في الكبرى لا يستحق العقاب "بشهادة الوجدان العقلي والعقلائي فيستكشف أخذ العلم بقبح الفعل في موضوع هذه القضية ولا إشكال فيه، بعد أن عرفت أنها قضية أخرى وفي موضوع آخر هو فعل العقلاء، فلا مانع من أن يؤخذ فيه علم الفاعل بقبح فعله وإلاّ لما استحق العقاب والذم منهم"(153).

نلاحظ:

أ ـ أن استحقاق العقاب والثواب إذا كان مدركاً عقلياً عملياً فلا يعقل أخد العلم قيداً في الوجوب العقلي المدرك قبلياً، كما هو الحال في سائر مدركات العقل العملي القبلي.

ب ـ أن أخذ العلم قيد في الحكم باستحقاق العقاب يرشدنا إلى أن هذا الحكم ليس حكماً عقلياً قبلياً.

جـ ـ أن استحقاق العقاب والذم من العقلاء على القبح المعلوم أُخذ مصادرة في بيان السيد الصدر.

 

ثانياً: نأخذ الخطأ في الكبرى بنحو التوسعة، لنلاحظه يقرر: "في الخطإ بنحو التوسعة كبروياً نلتزم بثبوت قبح آخر طولي لا بعنوان أنه خالف مولاه واقعاً ليقال بأنه مخالفه من تخيل أنه مولاه بل بعنوان الاقدام على مخالفة مولاه، وذلك بشهادة حكم الوجدان الذي تقدمت الاشارة إليه من اعتبار مثل هذا الفاعل مرتكباً لعمل قبيح ومذموم عند العقلاء، وبما أن هذا القبح لا يملك ان يكون هو نفس القبح الاولي المحفوظ في موارد الخطإ فلا محالة يستكشف كونه قبحاً ثانوياً طولياً"(154).

 

نلاحظ:

أ ـ أننا لا نلتزم بثبوت قبح في هذا المورد لا قبح عقلي ولا عقلائي. فمن تخيل أن التورية لاتنبغي وأن حظر الكذب عقلاً يشمل التورية مثلاً، أو من اعتقد أن الاطراء على صاحب الامانة جزء من الوفاء بالامانة، فهل يحكم العقل أو العقلاء بقبح التورية أو بعقوبة الموري؟ وهل يحكم العقل أو العقلاء بقبح فعل من يرد الامانة إلى صاحبها بدون اطراء أو يحكمون باستحقاقه للذم أو العقاب؟ ثم أين العنوان الانتزاعي الذي يثبت في ضوءه قبح طولي؟ اين الاقدام على مخالفة المولى؟

وقد نقل السيد مقرر البحث (محمود الهاشمي) مثالاً ظريفاً في هذا المجال فقال:

"من يتصور مولوية الزوجة فيخالفها يكون فعله قبيحاً بل ظلماً... مع حكم الوجدان بعدم كونه ظالماً وعدم قبح في فعله أصلاً"(155).

ب ـ اريد أن أفهم هذا القبح الثانوي الطولي، فهل هو في طول

القبح الاولي الغير ثابت، أم هو في طول عنوان الاقدام الانتزاعي، أم في طول ماذا؟

إن الاستشهاد بقبح وذم العقلاء يعني الهبوط من عالم الواقع والحقائق القبلية إلى عالم الفعل في الخارج واعتباراته وملابساته الاجتماعية العقلائية. ودليلنا هو كيف وأنى للعقل أو العقلاء أن يحكموا بقبح أو استحقاق عقاب أو ثواب إذا كانت الكبرى حكماً عقلياً لا علاقة له بعالم الامتثال وبالولايات العقلائية؟ إذا كان الحكم العقلي لا علاقة له بالولاية كقبح الكذب، وتوسع المكلف في كبرى وجوب اجتناب الكذب لتشمل التورية، فأين الاقدام على مخالفة المولى؟

ثالثاً: نأخذ الخطأ في الصغرى بنحو التوسعة أو التضييق. فقد أكد: "وأما الخطأ في الصغرى فالصحيح أخذ العلم وعدم الخطإ فيها في موضوع القبح، فمن تخيل أن زيداً ليس هو الذي انعم عليه، أو تخيل أن هذا ليس بحرام عند الله تعالى ـ وهذا من الخطإ بنحو التضييق ـ أو تخيل أن زيداً قد أنعم عليه أو أن هذا حرام عند الله تعالى ـ وهو التجري والخطأ بنحو التوسعة ـ لا يكون ارتكابه في الاوّل قبيحاً ولا مستحقاً للعقاب، وفي الثاني قبيحاً يستحق عليه العقاب: لان العلم بالصغرى مأخوذ في الحكم بالقبح بمخالفة المولى، بل هو تمام الموضوع فيه".

 

نلاحظ:

ما المقصود بأخذ العلم بالصغرى في الحكم بقبح مخالفة المولى؟ هل المقصود هو الحكم بالقبح الواقعي الذي هو مدرك عقلي قبلي؟ وقد قررنا وقرر الصدر من قبلنا أن هذا الحكم لا علاقة له بالعلم والجهل.

إذا كان المقصود هو تطبيق الحكم الكبروي على مصاديقه الخارجية، فعملية التطبيق هذه ليست عملية عقلية قبلية، بل هي سلوك نظري يتأثر بعوامل متعددة منها الاحكام القبلية، ومنها الاحكام العقلائية الاجتماعية الاعتبارية، ومنها الاحكام العقلية النظرية.

من تخيل أن المجرم أ هو المنعم الشريف ب. فلم يشكره ولم يتعامل معه معاملة المنعم المتفضل، ثم انكشف له أنه أ وليس ب، فهل هناك ضمير أخلاقي يؤنبه أم هناك عقلاء يحكمون باستحقاقه للذم؟!

إن حقّ الطاعة الذي يعني حكم العقل العملي القبلي بوجوب طاعة التكاليف الالهية، لا يمكن أن نحتفظ له بالقبلية والاولية إذا جعلناه مشروطاً ومعلقاً على العلم والجهل.

نعم إن تطبيق هذا الحكم العقلي القبلي على مصاديقه، والدخول به إلى عالم الخارج وميدان المزاحمات سوف يتأثر بالعلم والجهل، وسوف يخضع في ضمن عملية التطبيق لموازين عقلائية. وهنا ستتعارض الوجدانات.

ان الوجدان الذي اعتمده سيدنا الصدر اساساً لمجمل البحث في أحكام العقل العملي يعارضه وجدان مقرر بحثه وتلميذه، كما تعارض وجدان السيد الخوئي مع وجدان أستاذه المحقّق النائيني في هذا الموضوع (التجري). قد لاحظنا ذلك في بحثنا التفصيلي عن "المنطلقات العقلية للبحث في علم الاصول".

وهذا يرشدنا إلى أن الوجدان الذي هو أداة إثبات في هذه البحوث هو ما أسماه السيد الصدر "العقل الثاني" في الدورة الاولى. وقد لاحظنا أن هذا العقل العملي الثانوي ليس عقلاً قبلياً وليس عقلاً عقلياً خالصاً، بل هو ضمير تلابس أحكامه القيم الاجتماعية والتربوية، وهو ضمير فردي على كلّ حال لا يمكن أن يكون مرجعاً لاحكام البحث العلمي.

على أن نشير أخيراً إلى أن التحليل الاخير في موضوع التجري لم نجد له أثراً في تقريرات الدورة الاولى، وإن كانت أسسه مدونة في تلك التقريرات. فقد ولد بعد تلك الاسس بزمان، وكانت ولادته نتيجة طبيعية لتلك الاسس.