الجـدل الايراني المعـاصر
( 1 )
"الجدل" أعني به الحوار النقدي، لكنني أصر على استخدام مصطلح "الجدل" لدلالته على لون معين من الحوار، ولايقاعه الموحي بالتدافع والصراع! انه حوار نقدي حول الحكمة العملية، ولكن ما باله ان يكون صراعاً تدافعياً وهو يدور حول القيم الاخلاقية والمبادئ المتعايشة بسلام، حيث لا تعكر صفو وئامها مصلحة أو منفعة! آية ذلك انه جزء من الجدل الفكري العام، هذا الجدل الذي تلهب السياسة اواره، ومن ثمَّ تختلط فيه المصلحة بالمبادئ; احتدام الحوار الفكري، وقراع نصال النقد، أمر لا محيص منه، في ظل نهضة تصبو إلى صيف ينضج فيه الشواء. ولتكن السياسة عنصراً من عناصر خلق هذا الصيف، وأحماء وطيس النقد وتثوير العقل; ولكن ان تكون السياسة والمصلحة هي ربان السفين، وهي صيف الاحماء، فهذا نذير بجدب الجدل الخصيب، ومدعاة لحريق فكري لا يعود على أحد بخير.
هناك جدل ـ على كل حال ـ يدور حول الحكمة العملية، ترجع بدايته المعاصرة إلى العلاّمة الطباطبائي وتلميذه الاستاذ مطهري، وتبدو ملامحه واضحة في دراسة تحمل رسالة من رسائل فكر الغرب الحديث في موضوع الحكمة العملية. ويتطور الامر ليشمر أحد تلامذه مدرسة الطباطبائي ساعد الجد بدفاع فلسفي مستميت، دفاع فلسفي عن نظرية المتكلمين، التي طالما وقف الحكماء موقفاً معارضاً لها!
ان جذور الجدل المعاصر حول الحكمة العملية ينبغي ان نتلمسها عبر مصادر الالهام للفكر العقلي في ايران، حيث يرث هذا الفكر التيارين التقليدين في الحكمة العملية لدى المفكرين المسلمين، تيار المدرسة العقلية الكلامية، وتيار مدرسة الحكماء. وقد قُدر لتيار المدرسة العقلية الكلامية أن يكون حاضنه علم أصول الفقه، فتجد هذا التيار مسيطراً على الاتجاه العام لدى علماء أصول الفقه، بل العقل الفقهي لدى الشيعة الامامية في الاعم الاغلب. ولم يتخذ التيار الفلسفي مسرباً له في علم أصول الفقه إلاّ في العصر الاخير، حيث تبناه فقيه وفيلسوف هو الشيخ محمد حسين الاصفهاني، وتابعاه تلميذاه العلاّمة المظفر والطباطبائي.
لكن اتجاه الحكماء ـ بحكم الدور الذي اضطلعت به الفلسفة في ايران ـ ظل يمارس دوراً مربكاً، وقد حاولت في دراسة سابقة الكشف عن مكامن هذا الارباك. واضيف هنا جو الترقب الذي ساد بين أوساط الفلاسفة، حيث هيبة الاتجاه الكلامي وسطوة الدرس الفقهي الذي تبنى هذا الاتجاه، الاتجاه الذي تأسس بدوره على يد جهابذه فقهاء الطائفة كالمرتضى والطوسي والعلاّمة الحلي. من هنا تلاحظ الارباك متجلياً في اتجاه مدرسة الحكماء، وهي تصحر بنظرية الاعتبار الفلسفية.
حينما حاول الفقيه والفيلسوف الشيخ محمد حسين الاصفهاني وتلميذه المظفر طرح اتجاه الفلاسفة والاصحار به جلياً عبر ابحاثهما الاصولية تلاحظ هذين الفيلسوفين في نهاية المطاف حريصين على ادخال ما نعتّه في ابحاث سابقه القيد المموه "العقلاء بما هم عقلاء"; ذلك ليحفظوا للبناء الاصولي وحتى الكلامي نتائجه التي ترتبت بطبيعة الحال على عقلية مبادئ الحسن والقبح، لا على أساس بناء العقلاء والاعتبار والمواضعة، وحتى العلاّمة الطباطبائي التلميذ الاخر للاصفهاني لم ينته من بسط نظرية الاعتبار في دراساته الفلسفية، إلاّ وحاول ان يلتقي مع علم الكلام لاجئاً إلى الفطرة، ومتخذاً من حسن العدل وقبح الظلم مبادئ متعالية فطرية.
على أي حال سلك اتجاه الحكماء في العقل العملي سبيلاً آخر عبر ما طرحه العلاّمة الطاطبائي في تحليل وبحث بشأن الادراكات الاعتبارية. ورغم أهمية اتجاه الطباطبائي وأثره الكبير على نتائج البحث في علم أصول الفقه، إلاّ أن هذا الاتجاه لم يُمس أدنى مساس عبر ابحاث المعاصرين من علماء أصول الفقه. بل لم أجد سوى تلميذ العلاّمة "مطهري" من تحمس لهذا الاتجاه، وكرّس تظهيره وطرحه في محافل الدرس العقلي والفلسفي عامة.
أجل ان اطروحة الطباطبائي بقيت في عزلتها، إلى أن تناول الباحث الايراني المعاصر عبد الكريم سروش بحث الطباطبائي بالنقد عبر دراسته في فلسفة الاخلاق. والتي جاءت تحت عنوان "القيم والعلم"، وبالفارسية "ارزش ودانش". بل أظهر سروش اهتماماً بتظهير نظرية الطباطبائي، ويبدو ان هذا الاهتمام انصب بالدرجة الاولى على التمييز الجوهري الذي طرحه الطباطبائي بين الاحكام الاعتبارية والقضايا الحقيقية، وتأكيده على عدم وجود علاقة منطقية تسمح بالعبور من الاعتبار إلى الحقيقة أو بالعكس.
لقد تبنى سروش نظرية الفصل بين أحكام القيمة وأحكام الواقع، وهي النظرية التي سادت في عالم الحكمة الغربية الحديثة، بدءً من "دافيد هيوم". ولم يكن سروش أوّل باحث ايراني يتبنى نظرية الغرب في الفصل الحاسم بين أحكام القيمة وأحكام الواقع. لكن هناك خصوصيتين ساهمتا في تسليط الضوء على موضوع البحث، الاولى تعود إلى مقاربة الباحث للفلسفة الاسلامية وعلم الكلام، والثانية ترجع إلى خيار سروش العام في نقد المعرفة الدينية نقداً من خارج اطار هذه المعرفة، وبادوات غريبة على محيط غالبية محترفي هذه المعرفة.
وفي الاتجاه المضاد نجد تبلور ظاهرة ملفتة للنظر، فقد شمر أحد رجال الحكمة والفلسفة الاسلامية ساعد الجد لتأسيس النظرية الكلامية العقلية على أساس فلسفي. وهذا ما حصل في دراسة مستقلة للدكتور مهدي حائري، جاءت تحت عنوان "دراسات تحليلية في العقل العملي" وبالفارسية "كاوشهاى عقل عملي". وامتداداً لاتجاه الدكتور حائري الذي تناولناه في دراسات سابقة طُرحت محاولات، تنصب أساساً على الدفاع عن اتجاه المدرسة العقلية الكلامية بأدوات فلسفية.
والملاحظ ان جلّ المحاولات التي استهدفت تسويغ عقلية مبادئ الحكمة العملية والانتصار لاتجاه مدرسة العقل الكلامية استهدفت بالنقد الباحث الايراني "سروش".
حيث أفيد من هذه الظاهرة قضية حيوية في "نمو المعرفة"; ذلك ان نمو المعرفة كثيراً ما يكون استجابة لاثارات موضوعية، نعم وكثيراً ما يكون سكون المعرفة وانكفائها معلولاً لانقطاع السؤال!
حتى أسئلة المهرطقين كان لها أثر على نمو المعرفة الدينية، الزنادقة والشكاك والملحدون ساهموا باسئلتهم في نمو الحكمة وتفتح المعرفة. أجل يرتهن نمو المعرفة بالسؤال، وتبدأ رحلة العارفين من حيث تبدأ الاسئلة. أما إذا كانت الاسئلة تستبطن تحدياً ونبشاً للموروث فستجد تألق المعرفة وازدهارها.
لعل هناك من يرى الحل في قمع الاسئلة التي تثير الشبهات، وتتحدى ايمان الجماعة، وفي قتل الزنادقة واعدام الملحدين; ومحاصرة الفكرة المخالفة، واقصاء اصحابها وتغييبهم! وإذا أردنا ان نسلم جدلاً بمشروعية هذا اللون من الجنوح، لكنه ليس هو الحل! وهنا نحن لا نتحدث عما ينبغي وعما لا ينبغي، انما نحاول استنطاق واقع حركة العلم وتطور المعرفة في عالم يستعصي على اقامة المدن المغلقة. نعم ليس حلا ان نتوسل بالقمع والمحاصرة والاقصاء في عالم الفكر والمعرفة، إذ هو عالم يروغ على كل تلك المقولات.
الحل بكل بساطة ان نفكر، ان نناقش الاسئلة، ان نطرح الاشكالية، ان نقر بالواقع فنعترف بحرية الفكر، وهو حرٌ شئنا أم ابينا. ان الاستفهام والتساؤل أمر واقع يطرحه العقل الانساني أزاء الموروث المعرفي، سواء أكان علماً محضاً أم فلسفة ودرساً في العقائد والمذاهب والاديان. القمع لا يقضي على الاشكالية، انما إذا أفلح فسوف يعمم الجهل في محيطه ويروج للنفاق العقيدي والديني.
الحل ان نؤمن بالعلم كحقيقة تتركب في ضوء معطياتها مصالحنا، لا ان نركب العلم في ضوء المصلحة، حيث ادهى الاخطار على نمو المعرفة. ان أكبر تهديد لنمو المعرفة هو ان نضع مصالحنا واعتباراتها مقياساً رئيسياً في تقويم المعرفة وتوجيه مسالكها. وحينما يكون الامر كذلك فسوف نفسد على العلم نموه، ونوقع في المصلحة أشد الاضرار. اما إذا ركنا إلى العلم في فهم مصالحنا وتحديد الاولويات فيها فسوف تركن مصالحنا إلى سند وثيق، وسيحفظ للعلم حياده، فيفتح الباب أمام نموه وازدهاره.
يهمنا ان نؤكد ان (النقد) عمود فقري في نمو المعرفة، وهذا أمر تؤكده وقائع حقول المعرفة المختلفة، ويؤكده تاريخ الابداع، وتقرره كل التحولات الاساسية في المعرفة الانسانية عامة. العقل النقدي المتسائل هو الذي حدا بمسيرة العلم صوب التحولات الكبرى في الفيزياء والفلك والحكمة والمعرفة الدينية; ويضحى النقد ماء الحياة حينما يتناول الاسس والجذور، فيعلن وفاة الجذور المتآكلة، ليقلع العارفون عن تأسيس الاوهام عليها، ويسقي الجذور الحية، فيصلب عودها ويستقيم عليها البناء.
على كل حال يدور جدل حول الحكمة العملية في ايران الراهنة يقف
في طرف منه اتجاه نقدي تأسس مستعجلاً في قلب اللقاء الايجابي مع حكمة الغرب الحديثة، ويقف في الطرف الاخر انصار المدرسة العقلية في الحكمة العملية، وهم متسلحون باداوات الفلسفة. الاتجاه الاوّل لم يكن امتداداً لاتجاه مدرسة الاعتبار والمواضعة (اتجاه الحكماء المسلمين)، والذي برز مجدداً في اطار دراسات الطباطبائي وتلميذه مرتضى مطهري، بل هو اتجاه مستوحىً من حكة الغرب الحديثة، بينا يمثل الاتجاه الثاني تلامذة مدرسة الطباطبائي في الفلسفة عامة، إلاّ ان اتجاههم يمثل امتداداً لاتجاه البحث في علم أصول الفقه. فهو اتجاه ولد في جو البحث الاصولي، واستخدم مقولات البحث الفلسفي في الدفاع عن نظرية العقل الكلامية التي تبناها علماء أصول الفقه.
وبغية الوقوف على محاور الجدل القائم حول الحكمة العملية في ايران، علينا ان نتوفر على بعض نصوص هذا الجدل على الاقل. وهي نصوص
باللغة الفارسية، قمت بتعريب نص الطباطبائي الرئيسي في الجزء الاوّل من ترجمتي لكتابه "أصول الفلسفة والمنهج الواقعي"، وهنا أجد من الملائم ان نقف على نصين من نصوص هذا الجدل، النص الاول(188) يمثل قراءة لعبد الكريم سروش، انصبت على مدرسة الطباطبائي ونظريته في الحكمة العملية. والنص الثاني(189) دراسة تمثل تحليلاً لانصار الاتجاه الثاني. وبهذا نقف على أرضية مجموعة من النصوص الهامة في حقل هذا الجدل، يتسنى لنا في ضوءها الوقوف أخيراً بغية درس نقدي موثق للنظريات المطروحة، انطلاقاً من رؤية الباحث واتجاهه.
دراسة مقارنة في الادراكات الاعتبارية (المفاهيم الاخلاقية والمعيارية)
عبد الكريم سروش
باسم الله تعالى وتحية لارواح الاطهار ومن اصطفاهم تعالى، أخص سيدنا ورائدنا محمد المصطفى(صلى الله عليه وآله)، وعلى أرواح كل شهداء هذه الارض المطهرين، وسلام على روح المرحوم الحكيم العلاّمة محمد حسين الطباطبائي وعلى أرواح الحكماء الالهيين قادة قافلة التفكير المعنوي البشري.
ما تمّ الاعلان عنه وما سأقدمه للاخوة والاخوات الحاضرين عبارة عن بحث مقارن بين آراء المرحوم العلاّمة الطباطبائي في مجال الادراكات الاعتبارية وفلسفة الاخلاق وبين آراء حكماء الغرب خصوصاً في القرن الراهن.
طبيعي ان الفرصة المحدودة التي اُتيحت لي لا تمكنني من عرض وتحليل كل الدراسات،التي انجزت في مجال بحثنا. لكن أملي واطمئناني بثقافة المخاطبين الكرام تخفف مؤونة البحث، وسأقوم بشكل اجمالي بالمقارنة والمقايسة موضع بحثنا، آملاً ان تتاح الفرصة الملائمة ليتابع الاخوة والاخوات المهتمون بهذا المجال سعيهم ليبلغوا بفلسفة الاخلاق (هذا الحقل المعرفي الجديد في بلادنا) رشدها، ويتحقق لها الانتعاش المطلوب، على ان لا يكون ذلك ـ كما هو الحال لدى بعض الافراد ـ أداة لسباب واتهام الاخرين.
نحن بحاجة في المرحلة الاولى إلى التعرف على أفكار أسلافنا وعلى أفكار الغربيين أيضاً، ليتاح لنا في المرحلة الثانية تقويم ما لدينا بالمقارنة مع ما عند الاخرين. ان المقارنة بين الاراء عمل مبارك دائماً، والتقدم العلمي وصعود العلماء السلم يتم عادة بالتعامل الجدّي مع أفكار الاخرين والاطلاع عليها، ومعرفة تراث السلف العلمي في هذا المجال.
تحدث المرحوم العلاّمة الطباطبائي في المقالة السادسة من كتابه (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي) عن الادراكات الاعتبارية، وكان حديثه هناك حديثاً ذا صبغة فلسفية بحتة، وقد استلهم ماقاله الاصوليون من قبل، مع الافادة من آراء بعض الادباء في باب المجاز والاستعارة. كما كان حديثه إلى حد ما مشيراً للرد على ماركس الذي يرى الايديولوجية والالهيات تابعاً ورهناً لعلاقات الانتاج، ولا يرى لاي فكر شخصية وتاريخاً ونسباً مستقلاً.
الموضع الاخر للتعرض إلى بحث الادراكات الاعتبارية لدى الطباطبائي هو كتابه "الميزان في تفسير القرآن"، حيث تناول هناك البحث في مجال الاخلاق، فأفاد من نتائج البحث الذي أنجزه في أصول الفلسفة والمذهب الواقعي. ومن الطبيعي والمتوقع ان يكون حديث الطباطبائي في الميزان حديثاً تفسيرياً، وقد طرح أحياناً آراء الاشاعرة والمعتزلة فاتخذ البحث صبغة كلامية، كماتلوّن البحث في مواضع أخرى باللون الفلسفي الخالص. وسوف نفيد من كلا الاثرين في هذا البحث، حيث سأستعرض الهيكل العام لفكر المرحوم العلاّمة الطباطبائي في مجال الادراكات الاعتبارية، ثم اقدم مقارنة اجمالية بين فكره وآراء الغربيين في هذا المجال.
هناك نوع من الاعتباريات يعرفه حكماؤنا منذ زمن طويل كما تعلمون، وهي الاعتباريات بالمعنى الاعم أو ما يسمّى بـ "المعقولات الثانية"، وتنقسم إلى "معقولات ثانية فلسفية" و"معقولات ثانية منطقية". كما يطلقون أحياناً مصطلح الاعتباري مقابل الاصيل والمتحقق، كما نرى ذلك في بحث أصالة الوجود.
دراسة وتحليل المعقولات الثانية بعمق وتمييزها عن المعقولات الاولى، التي هي مفاهيم ماهوية، وتمييز الاعتباريات عن الحقائق بشكل عام من أهم البحوث الفلسفية التي ينهض بها الفيلسوف. ومنذ بدء المرحوم شيخ الاشراق بهذا البحث والتأكيد على ان مفهوم الوجود نفسه مفهوم اعتباري ببرهان التكرار التسلسلي، وان هيولى المشائيين الاولى أيضاً (التي يرى المشاء ان لها ماهية وجوهرية واستقلالاً) من العوارض التحليلية للجسم أي انها معقول ثان، منذ هذه البداية كان واضحاً ان بحثاً هاماً جداً بدأ طرحه في الفلسفة.
وقد طرح نصير الدين الطوسي أيضاً في مجال (البحث حول ان الوجود وارتباطه بالماهيه من المعقولات الثانية) فكراً فلسفياً يستحق التقدير، ورفع ابهامات في هذا المجال.
المرحوم السيد الطباطبائي يمثل حلقة في سلسلة الحكماء الموقرة. وقد طرح في بحثه عن ظاهرة تكاثر الادراكات مسألة الاعتباريات بالمعنى الاعم، وأضاف لهذا البحث بعض التحقيق، الذي اتخذ طابعاً نفسياً، وبذلك رجح الجانب المعرفي للبحث على الجوانب الاخرى أما موضوع الاعتباريات بالمعنى الاخص، التي تعني ما يحسب أفكاراً أو الافكار الاداتية، فهو لا يشكل قسماً مستقلاً في فلسفة اسلافنا، وانما هو من ابتكارات المرحوم العلاّمة الطباطبائي الخاصة، حيث فتح باب جديداً للبحث حول هذا الصنف من المفاهيم. وقد اشار المرحوم مطهري في شرحه على المقالة السادسة من أصول الفلسفة والمذهب الواقعي إلى هذه الحقيقة أيضاً.
استلهم المرحوم العلاّمة الطباطبائي ـ كما ذكرت آنفاً ـ الاصوليين والادباء أيضاً، حيث تلاحظ آثار خطوات بعض الحكماء، لم يحدد العلاّمة الارتباط بين أفكاره وأفكار السلف، ولم يشخص حدود ما هو من ابتكاراته وما هو من عطاء الماضين.
الادراكات الاعتبارية تصديقات مجازية:
أوّل قضية هامة في نظرية المرحوم العلاّمة الطباطبائي هي انه بدء بحثه من المجازات والاستعارات، ثم ذهب إلى ان الافكار الاعتبارية والاخلاقية من صنف المجازات. وفق ما يطرحه من ايضاح ـ رغم عدم نصه عليه ـ يلزم تصنيف الادراكات الاعتبارية في جنس التصديقات لا التصورات. وهذا أوّل افتراق بين نهج وروده ميدان البحث ونهج الغربيين. نعم لم يقل ان مقصوده من الادراكات الاعتبارية التصديقات الاعتبارية، لا التصورات الاعتبارية، ولكن حيث انه يعرف الادراك الاعتباري بانه (اعطاء ووسم شيء بحد شيء آخر) مما يعنى أخذ مفهوم الاسناد في تعريف الاعتبار، يتضح ان الادراك الاعتباري يلزم ان يكون من جنس التصديقات لا التصورات. ثم حينما يقول ان الادراكات الاعتبارية وهمية تتكيء وتقوم على أساس المعاني الحقيقية فهو يقصد التصورات الحقيقية. وهذه المسألة إحدى القضايا التي أوقعت كثيراً من الباحثين في خطأ التقويم، فتصوروا وقوع التهافت بين قول العلاّمة الطباطبائي أنْ ليست هناك علاقة استنتاجية بين القضايا الحقيقية والقضايا الاعتبارية، وبين قوله هنا ان الادراكات الاعتبارية تتكيء على الادراكات الحقيقية. ولكن ليس هناك تهافت. نعم ليس هناك ارتباط استنتاجي بين التصديقات الاعتبارية والتصديقات الحقيقية.
يعني: ان القياس المؤلف من القضايا الحقيقية لا ينتهي إلى تصديق اعتباري. كما ان القياس المؤلف من القضايا الاعتبارية لا ينتهي إلى تصديق حقيقي. وقدأشار إلى هذه المسألة المرحوم مطهري أيضاً بوضوح في شرحه للمقالة السادسة. ولكن كل تصديق اعتباري يقوم على أساس تصورات حقيقية. والسر في ذلك ان الانسان لا يمكنه ـ من جهة نظر العلاّمة ـ ان يصطنع بنفسه أي تصور، وكل تصور لابدّ ان تكون له نسخة واقعية في نفس الامر، الاعم من عالم الخارج وعالم النفس، ومن ثمّ فالعلم حكاية ونافذة وعين الكاشفية، فلا بدّ ان يحكي عن شيء آخر.
المسألة الثانية في نظرية العلاّمة هي قضية عدم الارتباط الاستنتاجي بين القضايا والادراكات الحقيقية وبين القضايا والادراكات الاعتبارية. ان الادراكات أو التصديقات الاعتبارية أمور وهمية وكاذبه حسب نظر العلاّمة، يعني انها قضايا اخبارية كاذبة، حيث انه يعتقد بان الادراكات الاعتبارية كذب تترتب عليه آثار، وليس كذباً لغواً. وعلى هذا الاساس يمكن فرض مطابق لها، رغم أنها ليست ذات مطابق في نفس الامر. ومن هنا فهي قضايا وليست شبه قضايا.
وسوف نرى لاحقاً ان هذا الموضوع يمثل إحدى نقاط الاختلاف بين الطباطبائي وفلاسفة الغرب، الذين لا يرون بعض التصديقات الاعتبارية تصديقات بمعنى الكلمة، بل يعتبرونها قضايا فارغة لا مضمون لها. وذهبوا إلى ان القضية إذا كانت اخبارية يمكن ان تكون صادقة أو كاذبة، أما القضايا القيمية ـ على حدّ تعبيرهم ـ فهي أساساً ليست علماً، ولا يمكن ان تكون صادقة أو كاذبة.
القضية الثالثة في نظرية العلاّمة هي انه حينما يرى ان الادراك الاعتباري تصديق وقضية ويسميه (إدراك)، فمن المقطوع به ان تكون القضايا الاعتبارية ذات معنى ومضمون. وهذه المسألة توفر لنا فرصة المقارنة، إذ أحد البحوث الهامة في الغرب تنصب على ان هذه الجمل الاخلاقية والقيمية هل لها معنى أم لا؟
من الواضح ان السيد الطباطبائي لم ينص على هذا الاختلاف ولكن حينما يسمي هذه الجمل قضايا، ويقول انها قضايا كاذبه ذات أثر، ويطلق مصطلح الادراك عليها، فهذه مؤشرات على انه يعتبر تلك الجمل قضايا ذات معنى.
عدم الارتباط الاستنتاجي في مادة القياس:
القضية الرابعة في نظرية المرحوم السيد الطباطبائي هي انه يفتي ـ كما ذكرنا ـ بعدم الارتباط الاستنتاجي بين التصديقات الاعتبارية والتصديقات الحقيقية، ولكن يجب الالتفات إلى أن عدم الارتباط الاسنتناجي هذا يرتبط بمنطق المادة، لا بمنطق الصورة.
حينما قال فلاسفة الغرب ان القياسات المؤلفة من قضايا تتحدث عما ينبغي ان يكون لا تنتهي إلى قضايا تتحدث عما هو كائن، وبالعكس أيضاً القياسات التي تتحدث عما هو كائن لا تنتهي إلى قضايا تتحدث عما يجب ان يكون، فقد كشفوا اللثام عن مغالطة في المنطق الصوري، وقع فيها الكثير رغم بساطتها.
لكن الذي يقوله المرحوم الطباطبائي من انه لا ارتباط استنتاجي بين الادراكات الاعتبارية والادراكات الحقيقية، يرتبط بمادة القضايا لا بصورتها. يعني: انه لم يقل ان لدينا مثل هذه المغالطة في المنطق الصوري، وان الحد الاوسط غير متكرر في هذه القياسات مثلاً، بل يقول ان طبيعة المقدمات المؤلفة من القضايا الحقيقية لا تنتهي إلى قضية اعتبارية أو أخلاقية. كما هو الحال حينما نقول على وجه التحديد لا يمكن استنتاج قضية ميتافيزيقية من قضية تجريبية. أي إذا تشكل قياس من قضايا تجريبية فسوف ينتهي حتماً إلى قضية تجريبية لا إلى قضية ميتافيزيقية، وكذلك القياس المؤلف من قضايا كلية لا ينتج اطلاقاً قضية شخصية، وفي الجدليات إذا كان القياس مؤلفاً من قضايا جدلية لا يمكن ان نصنع من هذا القياس برهاناً، لان مادة تلك القضايا ليست أولية أو يقينية. ومن هنا فالقياس المؤلف بلحاظ مادة القضايا من جدليات ينتج حتماً قضية جدلية لا غير. إذن! إذا اعتبرنا عدم الارتباط الاستنتاجي نقلة غير جائزة، فعدم الجواز هنا يرتبط بمادة القضايا، لا بالشروط الصورية للاستنتاج المنطقي.
القضية الخامسة في نظرية العلاّمة هي انه يعتقد بان المقياس في كل تصديق اعتباري توفره على ضرورة ووجوب، إلاّ انه لم يحدد طبيعة هذه الضرورة، حيث أوضح بشكل مفصل وممتاز ان لدينا لونين من الضرورة: الضرورة الفلسفية، وضرورة أخرى استعيرت من محلها الحقيقي واستخدمت في محل آخر فربطت بين العلّة واللامعلول أو بين المعلول وغير العلّة. وهذه الثانية هي الضرورة الاعتبارية.
وبعد ان اتضح ان المقياس في التصديق الاعتباري وجود ضرورة، يأتي دور الاستفهام: هل ان هذه الضرورة ضرورة حقيقية أم انها ضرورة اعتبارية؟
إذا كان الجواب بانها ضرورة حقيقية، فهذا خلاف الحق، لان الضرورة الحقيقية تبرز في القضايا الحقيقية، لا القضايا الاعتبارية. وإذا قلنا ان مقياس التصديق الاعتباري ضرورة اعتبارية، يضحى التعريف دورياً، ولا يمكن ان يكون مقياساً، لاننا عرفنا الاعتبار بالاعتبار. ومن المؤسف ان هذه القضية مبهمة في المقالة السادسة من أصول الفلسفة والمذهب الواقعي.
المسألة السادسة في فكر المرحوم العلاّمة الطباطبائي هي انه ـ خلافاً للمتقدمين ـ ذهب إلى ان هناك ضرورة اعتبارية بين حلقات سلسلة صدور الفعل بغية وجوبه. فحينما تبدأ السلسة من عقل الفاعل، ثم الارادة، فالقدرة، لتنتهي إلى العمل هناك في البين ضرورة اعتبارية، وهذه الضرورة الاعتبارية لم يذهب إلى وجودها السلف من الحكماء.
ذهب السلف من الحكماء ـ كما نعرف ـ إلى ان الفاعل حينما يعزم على فعل من الافعال وينتهي هذا العزم إلى عمل فهو بدءاً يصدّق بفائدة ذلك الفعل، وهذه حصة العقل، ثم يتحرك الشوق المؤكد أو الارادة (إذ اعتبرنا الارادة شوقاً مؤكداً)، ثم يأتي دور القدرة يعني القوة النزوعية التي هي قدرة غير مباشرة على العمل، ثم القدرة المباشرة على العمل التي تنتشر في العضلات، وبعد ذلك يأتي دور العمل. ولكن أين هي حلقة الوصل بين التفكير العقلي والاقدام العملي؟ تتلخص هذه الحلقة في الشوق المؤكد والبعث الارادي.
إلاّ ان المرحوم السيد الطباطبائي ذهب إلى ان هناك في هذه الحلقة وجوباً اعتبارياً أيضاً. وهذا الوجوب هو الذي ينجب الاعتقاد بحسن الفعل أيضاً. على هذا الاساس فكل فعل يصدر من الفاعل باعتبارين: أحدهما باعتبار الوجوب، يعني الوجوب الاعتباري، والاخر باعتبار الحسن، يعني الحسن الاعتباري. الحسن متأخر عن الوجوب والثاني متقدم عليه. فالعزم والاذعان والشوق والوجوب لانجاز العمل، ثم يقوم الشخص بالعمل، باعتبار حسن الفعل، حيث يبرر الفعل ويصححه.
في هذا الضوء لدينا حسنان وقبحان من وجهة نظر العلاّمة، حسن ينسب إلى الفعل في الخارج بغض النظر عن الفاعل، وآخر الحسن الذي يسنده الفاعل حين القيام بالفعل. وكل فعل ـ سواء أكان حسناً أو قبيحاً ـ يصدر من الفاعل باعتبار حسنه واعتقاده، لكن الفعل في الخارج وبغض النظر عن الفاعل يمكن ان يكون في نفسه قبيحاً أو حسناً. وما تمّ بحثه في المقالة السادسة من أصول الفلسفة والمذهب الواقعي هو الحسن والوجوب الفاعلي فقط، أي الحسن والايجاب الذي ينسبه الفاعل لفعله حين القيام بالعمل. يعني: ان العلاّمة أوضح آلية صناعة الاعتبار لدى الانسان، وكيفية بناء الاخلاق واعتبار الحسن، بغض النظر عن تحديد الاعتبار المقبول والمبرر والاعتبار المرفوض واللامبرر. بل اكتفى ببيان ان بني الانسان حينما يقومون بعمل يأخذون بتبريره لانفسهم وايجابه، حتى ولو كان الفعل قبل القيام به محرماً وقبيحاً بحكم أسباب ودلائل. يعني ان بحثه هناك ليس بحثاً أخلاقياً ـ كما قلنا ـ ولم يتصدَّ لايضاح الفضيلة والرذيلة ومعيار الحسن والقبح، بل يدخل بحثه في دائرة علم النفس والمعرفة البشرية، ولذا صرّح وأشار في رسالته التي كتبها باللغة العربية حول الاعتبارات: "هذه المباحث أشبه بان تتفرع على علم النفس".
اما البحث عن حسن وقبح الفعل في نفسه، الذي يمثل محور نقاش العلاّمة للاشاعرة والمعتزلة، فقد طُرح في (الميزان في تفسير القرآن). حيث يدور البحث حول: هل ما يفعله الله حسن؟ هل كل ما يفعله الله حسن أم ان الحسن هو ما يفعله الله؟ وهذه هي المسألة الخالدة في الفلسفة التي ابتدأت منذ سقراط والتهب البحث فيها بشكل عجيب بين المتكلمين المسلمين منذ القرن الاوّل للهجرة ولا يزال البحث فيها ملتهباً. على أي حال يبقى التمييز بين حسن الفعل في نفسه واعتبار الحسن من قبل الفاعل تمييزاً هاماً، وقدطرحه العلاّمة الطباطبائي، ولا بد من أخذ هذا التمييز بنظر الاعتبار حين قراءة فكره.
المسألة السابعة هي ان الادراكات الاعتبارية ليس لها أحكام الافكار الحقيقية، أي ان ما نذهب إليه بصدد التصديقات الحقيقية كتقسيمها إلى بديهية ونظرية، وإلى واجب وممكن وممتنع (ما يقع في جهة القضية)، لا يأتي في مورد التصديقات الاعتبارية. وعلى هذا الاساس يجوز تأخر الشرط عن المشروط في الاحكام الاعتبارية، لكنه في الامور الحقيقية محال مطلق.. وهكذا وعن هذا الطريق سجل العلاّمة ملاحظات واعتراضات على استدلالات علماء أصول الفقه، حيث خلطوا بشكل كبير بين الاعتبار والحقيقة.
المسألة الثامنة هي: هل اطلاق العلامة لمصطلح الادراك على الافكار الاعتبارية اطلاق سليم أم لا؟
قلت ان الادراك الاعتباري يلزم ان يفهم بمعنى التصديق لا بمعنى التصورات الاعتبارية اما الان فعلينا ان نرى: هل أذهاننا أثناء التصديق الاعتباري تتوفر على ادراك جديد، أم أنها تقوم بفعل جديد غير ادراكي فحسب؟
الاعتبار ـ من وجهة نظر السيد الطباطبائي ـ لون من استعارة المفاهيم وتغيير مواضعها. الاعتبار هو الحسبان والتخيل والفرض. فحينما تقول: "اعتبرت فلاناً أسداً" فهذا يعني انك تحسبه أسداً، وهو ليس بأسد ولكن فُرض أسدٌ، هذا هو معنى الاعتبار. التصور الاولي للاسد وفلان تصور حقيقي عندنا، وما يقوم به المعتبر ـ على حد تعبير العلاّمة ـ هو اسناد حدّ موجود إلى موجود آخر، وهو لون من احلال شيء محل آخر. وهذا الاسناد هو عين ما اعتبره السلف من الحكماء بأنه شأن من شؤون القوة المتخيلة.
على أساس التصنيف الفلسفي لقوى النفس الحيواني الباطنة التي تدرك بآلة هناك قوة تسمّى القوة المتخيلة، التي يطلق عليها لدى الانسان المفكرة، عملها التصرف في ادراكات القوى الاخرى. ذهب المشائون عامة إلى ان عمل هذه القوة ليس ادراكاً، والغزالي وأمثاله ذهبوا إلى عدم صحة ادراج هذه القوة في قائمة القوى المدركة، بل يجب ادراجها كجزء من القوى المحركة، لان علمها التصرف والتحريك لا الكشف والادراك، فهي تقوم بتركيب المفصل وتفصيل المركب، لا التجريد والانتزاع... وحينما ننسب تصوراً إلى تصور آخر في وهمنا وخيالنا، فنحن هنا نركب أو نجزيء، دون ان يكون لهذا التركيب والتحليل مطابق في عالم الخارج، ونحن نقوم بهذا العمل بتصرف منا وبأيدينا. وبالضبط كالعمل الذي نقوم به في باب المجاز والاستعارة. وفي هذا الحال نحن فى الواقع لا ندرك ولا نكتشف جديداً، بل نقوم بلون من التحليل والتركيب. يعني: ان التخيل فعل من أفعالنا، وليس ادراكاً من ادراكاتنا، ونحن فيه فعالون ولسنا بمنفعلين.
بصدد الموضوع المتقدم هناك خلاف بين الفلاسفة، فإذا راجعنا نظرية شيخ الاشراق فعلينا ان نطلق على ذلك الفعل مصطلح "الادراك"، حيث ذهب في حكمة الاشراق إلى ان عمل القوة المتخيلة هو التصرف والادراك معاً. لكن حكماء المشّاء بعامة لا يعتبرون هذا العمل لوناً من الادراك، بل هو تصرف محض. إذن رأي المرحوم العلاّمة الطباطبائي هنا يختلف عن رأي عامة حكماء المشاء، لان وسم المجازات بانها ادراك وتصديق يعني الاقرار بان القوة المتخيلة بمكنها الادراك أيضاً.
هل لدى الحيوانات ادراك اعتباري؟
ذهب المرحوم السيد الطباطبائي إلى ان الاعتبار شأن من شؤون الكائنات الحية الشاعرة. وفي هذا الضوء يُفتح أمام البحث باب واسع، حيث يبدو ان العلاّمة يعتقد بقدرة الحيوانات على الاعتبار. وإذا كانت الحيوانات قادرة على صناعة الاعتبار والمجاز حينئذ ستتغير نظرتنا للحيوانات، وقد يمكن عندها القول ان الحيوانات يمكن ان تتحمل مسؤولية التكليف أيضاً.
وهذه المسألة أيضاً إحدى نقاط الخلاف بين المرحوم مطهري والسيد الطباطبائي، حيث صرح بانه لا يوافق على هذا الجزء من نظرية العلاّمة. والمؤسف هنا ان السيد الطباطبائي لم يفصّل البحث حول هذا الجزء، لكن مدلول كلماته ومفاد حديثه هو ما عرضناه. ويبقى السؤال: كيف تمّ للعلامة القول بان الحيوانات قادرة على الاعتبار والمجاز؟ سؤالاً محيراً يصعب اثباته، ومحلاً لبحث طويل على كل حال.
أما بالنسبة إلى الحسن والقبح الذي يسند للفعل في نفسه فللعلامة بحوث في هذا المجال في كتابه (الميزان في تفسير القرآن). وأهم هذه البحوث البحث الذي جاء في سورة الاعراف، في التعقيب على الايات المتعلقة بخلق آدم وسجود الشيطان، حيث نقل هناك بالتفصيل شبهات الامام الفخر الرازي، التي هي شبهات الاشاعرة. ونقل عنه قوله ان الانس والجن لو اجتمعت لعجزت عن الاجابة على اشكال خلق الله للشيطان وامهاله إلى يوم القيامة، إلاّ إذا أقرّت ان الحسن والقبح ليسا عقليين.
الموضع الاخر لبحث العلاّمة هو ما جاء في المجلد السابع من الميزان في تفسير سورة الانعام، حيث فتح الباب أمام بحث فلسفي عبر بيان معنى الحكم الالهي، وقد ضمّنه البحث حول الحسن والقبح. وله بحوث أخرى في باب المصلحة والغاية في الفعل الالهي، وله ايضاحات جيدة ومختصرة تعقيباً على آيات مطلع سورة إبراهيم.
أهم أدلّة العلاّمة في تفسير الميزان على ان الحسن والقبح أمران اعتباريان، وليسا من الصفات الواقعية للافعال هو: ان الفعل الواحد يمكن ان يتصف بصفة القبح، وهذا الفعل نفسه بأوصافه يمكن ان يتصف بصفة الحسن. وهذا دليل على ان صفات الحسن والقبح من اعتبارنا وليست كشفاً حققناه في عالم صفات الافعال. وإلاّ فسنقع في تناقض. أجل هناك كثير من الافعال ذات صورة خارجية متطابقة، مثلاً الزنا والنكاح، أو الكذب والصدق. فالقول الكاذب والقول الصادق من حيث هما عملان وطاقتان ليس هناك أي فرق بينهما. ومن هنا فحينما نصف أحدهما بالحسن والاخر بالقبح، فهذا الحسن والقبح مأخوذ من موضع آخر، ثم نسب إلى الفعل. وقد أكد العلاّمة بالخصوص على انه ليس هناك لهذه الاوصاف الاعتبارية وجود في عالم التكوين، وحذّر من وهم الذهاب إلى ان هذه الصفات تتحقق في عالم الخارج والتكوين.
المثال الاخر الذي ضرب في هذ المجال: (رئاسة زيد)، الرئاسة ـ كما تعرفون ـ أمر اعتباري، وهو من الامور الاعتبارية بعد الجامعة أيضاً من وجهة نظر المرحوم الطباطبائي، أو حينما نقول: (زيد رئيس) أي على الرأس، فالرأس ـ حسب وجهة نظر السيد الطباطبائي ـ ذو معنى حقيقي، وزيد بهذا المعنى ليس رأساً، ولكن حينما نستعير هذا المعنى من محله الحقيقي وننسبه لزيد، فسوف يتوفر زيد على معنى اعتباري ومجازي. من هنا فوصف زيد بالرئاسة لون من الاعتبار، لكنّ زيداً في عالم الخارج زيد، وليس رئيساً ولا مرؤوساً. بل هذان الوصفان أمران اعتباريان، فالباري تعالى لم يخلق زيداً رئيساً ولا مرؤوساً أيضاً، فالاعتباريات لا يتعلق بها الجعل والخلق أيضاً.
في هذا الضوء يعتقد العلاّمة ان الحسن والقبح وسائر العبارات المناظرة كرئاسة زيد، ليس لها أثر في عالم التكوين. انما توجد جميعها في عالم الاعتبار فحسب. وحقيقة الاعتبار هي ان تحسب غير الالف ألفاً، وغير الرأس رأساً وغير القائم بالغير قائماً بالغير، وغير الاسد أسداً، وغير الدال دالاً (وضع الالفاظ). هذا هو مقياس الاعتبار لدى الطباطبائي.
عرضنا حتى الان باختصار الاسس والافكار الهامة للمرحوم الطباطبائي في مجال الادراكات الاعتبارية أو الافكار الانشائية والقيمية. وآن لنا ان نقوم بشيء من التحليل لهذه الافكار ومقارنتها بأفكار الاخرين:
بدءاً ينبغي علينا تحليل وايضاح مسأله في نظرية المرحوم السيد الطباطبائي، وإليك ايضاحها وفق الطريقة التالية: هناك نظرية طرحت في الغرب منذ ماركس، ولم يأت طرحها في اطار البحث حول فلسفة الاخلاق، ولكن كان لها أثر عميق على فلسفة الاخلاق، وهذه النظرية هي: ان الايديولوجية بعامة بناء فوقي، والنظام الاقتصادي بناء تحتي. أي ان الفكر البشري في خدمة أسلوب الحياة ونظام الاقتصاد البشري، والبشر يفكر كما يعيش، وليس العكس. وبتعبير آخر تمثل الاخلاق وفلسفتها توجيهاً عقلانياً لاسلوب حياة البشر(190).
وهذا التوجيه العقلاني يُدعى لدى ماركس بالايديولوجية. يستثني ماركس العلوم الطبيعية التجريبية، وسائر ما جاء تحت عنوان: الحقوق، والفلسفة، والاساطير، وعلم الاخلاق... كل ذلك أجزاء الايديولوجية، وكلها حسب ماركس بنى فوقية، وليس لها تاريخ ومنبع مستقل، وهي تبدي لنا صورة العالم مقلوبة بشكل ما. أي بدلاً من ان تقول لنا كان أوّلاً وضع خارجي، ثم وقع موقع التحسين والتبرير العقلاني، تبدي لنا كأن هذا الوضع كان حسناً ومبرراً، ولذلك اصبح مورداً للعمل والتنفيذ.
في هذا الضوء تتغير الاخلاق تبعاً لتغير المجتمعات، ويحسب الادميون ما هم عليه أموراً حسنة، وما هو مكروه ومرفوض أخلاقاً سيئاً. للمرحوم السيد الطباطبائي تحليل بشأن ظهور علم الاخلاق والادراكات الاعتبارية، وكأنه يسير في نفس الخط المتقدم.
يعتقد العلاّمة الطباطبائي ان حوافزنا ودوافعنا تنسجم وتتعاضد مع قوانا الفعالة. والحوافز هي التي توقظ في أذهاننا طلب الاشياء، فحينما تتحرك رغبة وميل الفرد للاكل، يظهر في ذهنه "يجب ان أشبع". لكننا بحاجة إلى لونين من الادوات بغية أداء الاعمال: الادوات الخارجية، وهي القوى الفعالة (الباصرة، الغاذية...)، وبنيتنا الجسدية (وأدوات نستخدمها لادامة فعالية البنية الجسدية، فنستخدم، السكين والفأس والمكنسة والتلفون...)، ولون آخر من الادوات التي تنتمي إلى جنس الفكر، والفارق بين البشر والحيوانات يكمن في ان البشر يبني أدواته، ويمارس عمله بها، على ان قدرته على صناعة الادوات كبيرة جداً، ويصنع حتى تلك الادوات التي هي من جنس الفكر والوعي، بغية تيسير أهدافه. وهذا اللون من الادوات الفكرية التي نصنعها نحن ونستخدمها هي ادراكات اعتبارية مثل "يجب ان اشبع". إذن فالادراكات الاعتبارية في المرحلة الاولى توصلنا إلى أهدافنا، وهي بمثابة جسر توصل بين بواعثنا وقوانا الفعالة وبين عالم الخارج. ثم في المرحلة الثانية تمثل المبرر لمطالبنا. يعني كل فعل تبعثه دوافعنا ونريد انجازه سوف يبرره عقلنا العملي، بحيث اننا نقوم بكل الافعال باعتبار واعتقاد وجوبها وحسنها.
إذن! يلعب العقل ـ من وجهة نظر العلاّمة ـ دور المبرر للافعال التي دُفعنا لانجازها، وكل الافعال تصدر على هذا النحو، وعليه فالحسن والقبح تابع لرغباتنا وحاجاتنا، لا ان حاجاتنا ورغباتنا تابعة لهما، ومن هنا ينتج ان ليس لدينا حسن وقبح مطلق ومن ثمَّ ليس لدينا أخلاق مطلقة، والفضيلة والرذيلة أسماء لاشياء أخرى نَسِمُ بهما ما نريد وما نكره. كما ينتج أيضاً انه إذا لم يكن الانسان موجوداً فلا وجود أيضاً للحسن والقبح، وإذا كان الادميون على نحو آخرمن الخلق فسوف يكون لاشياء الكون حسن وقبح آخر، فتبعا لحاجات ومتطلبات الادميين سوف تطرح فضائل ورذائل أخرى، ومن الممكن على سبيل المثال ان يكون العدل قبيحاً والظلم حسناً وهكذا...
ايضاحات العلاّمة بصدد (اعتبار حسن العدل) يؤكد النتيجة المتقدمة، فهو يقول: يطلب الانسان دائماً بهدي الطبيعة والتكوين منفعته (اعتبار الانتفاع) ولاجل منفعته يريد النفع للجمع (اعتبار الجامعة)، ولاجل نفع الجميع يطلب العدل الاجتماعي (اعتبار حسن العدل وقبح الظلم)(191).
على هذا الاساس يضحي العدل حسناً تبعاً لطلب الادمي منفعته، وان لم يكن الادمي طالباً لمنفعته فالعدل سوف لن يلازم الحسن بل سيتوفر على وصف أخلاقي آخر. ومن الواضح تعارض هذا الرأي مع آراء الاخلاقيين عامة. مضافاً إلى ذلك يستحيل اطلاقاً ان نعرف ـ في ضوء هذه النظرية التي تذهب إلى نسبيه الاخلاق ومجازيتها ـ طبيعة طلب المنفعة لدى الادمي هل هي حسنة أم قبيحة؟ وما هي طبيعة ميول الادمي وحوافزه التي تدفعه إلى العمل، ومن ثمّ يعتبر الحسن والوجوب، هل هي حسنة أم قبيحة؟ ثم ما هو حكم القيم الاخرى كالايثار والتضحية؟ وكيف نحكم بحسنها؟ وما هي البواعث الانسانية النفعية التي تنتج هذه القيم؟
إذا كان الامر عل هذا الحال فعلينا ان نفتش آثار العلاّمة لنتعرف على مفهوم الفضيلة الانسانية لديه. حيث اننا نعرف عن علمائنا الاخلاقيين انهم جميعاً يذهبون إلى ان القوة الشهوية والقوة الغضبية تابعتان للقوة العاقلة، والاخيرة ليست مبرراً وخادماً لميول القوتين، بل(192)بالعكس يلزم ان تكون
حاكمة وموجهة لهما، وهي التي تحكم بالصحة أو الخطأ على افعالهما. وإذا قلنا (يجب تربية القوة الغضبية والشهوية وتهذيب الميول والدوافع لكي لا تدور مدار القبائح والمنكرات، فتطلب من الادمي ما لا ينبغي) فهذه المقولة ليس لها أي مبرر في النظام الاخلاقي للمرحوم العلاّمة الطباطبائي. فلِمَ يجب تربية القوة الغضبية والشهوية؟ ثم نفس هذا الوجوب من أي القوى الفعالة يترشح؟ وإذا كانت له قوة يترشح منها، فَلِمَ يلزم ان يترجح مطلوب هذه القوة على مطلوبات القوى الاخرى؟ ثم ما هي الامور والمطلوبات القبيحة والمنكرة، ومن أين يأتي قبحها؟ وهل ان للحسن والقبح ـ غير رغبة وعدم رغبة الادمي ـ مصدراً ومبدأً آخر؟ وأسئلة أخرى من هذا الطراز.
من المقطوع به ان المرحوم السيد الطباطبائي ـ على أساس معرفتنا به وعلى أساس ما تدل عليه سائر آثاره ـ لا ينبغي ان يذهب إلى القول بان فضيلة الانسان تكمن في انجاز كل ما تريده النفس الحيواني لكن يبدو من التحليل الذي قدمه لظهور الضرورات وكيفية الاقدام على الاعمال انه انتهى إلى هذا الموقف! وتلك الابهامات والنتائج المكروهة دفعت المرحوم الشيخ مطهري ليسم في دروسه الاخلاقية نظرية المرحوم الطباطبائي بأنها ـ على الظاهر في الحد الادنى ـ نظرية ذاتية ومادية. وحاول المرحوم مطهري الخروج من هذا المأزق عبر طرح "أنا العليا" و"أنا السفلى"، وسعى لاثبات ان الحسن صفة لمطالب "الانا العليا" وليست صفة لكل مطلب. لكن طرح المرحوم مطهري نفسه لم يقم على بناء محكم، ذلك لان التمييز بين "الانا العليا" و"الانا السفلى" يقوم على أساس قيم أخلاقية قبلية. يعني ان القبيح والحسن يجب ان يكون معرفاً قبل الانا العليا والسفلى، لكي تكون "الانا العليا" ذات فضائل، وإلاّ سوف لا يكون هناك تفاوت بين الانا العليا والسفلى، ولا ينبغي ان نضع فرقاً بين مطالبهما(193).
لا يتفق المرحوم السيد الطباطبائي في مجال الحسن والقبح العقليين مع الاتجاهين الاشعري والمعتزلي، بل يعتقد بان الامر بين أمرين، ولا يرى ان الباحث ليس أمامه مفرٌ من الالتزام باحدى النظريتين. مسألة الحسن والقبح العقلي ـ كما تعرفون ـ لها فروع كثيرة: مسألة نفي العبث عن أفعال الله تعالى، وانها ذات غرض، مسألة اللطف، مسألة الالام والتعويض، مسألة تابعية الاحكام الشرعية للمصالح والمفاسد، مسألة وجود الشيطان، وجوب شكر المنعم، وكثير من المسائل الاخرى التي جاءت في كتب السلف من علماء الكلام. ومن خلال الايمان بالحسن والقبح العقلي أو عدم الايمان به يتحدد مصير جميع هذه المسائل.
يعتقد العلاّمة في دراساته التفسيرية بضرورة اختيار الطريق الوسط، وهو نفس الطريق الذي ركبه الحكماء، وان المصلحة والمفسدة ليست من مباديء فعل الباري تعالى، فالغرضية ليست من مبادئ فعل الله تعالى، يعني انها ليست محركة لله تعالى نحو الفعل، كما هو الحال بالنسبة لنا حيث ان الغائية أو الحسن والقبح جزء من مبادئ فعلنا وتركنا. أجل فالامر على عكس ذلك بالنسبة للباري تعالى، فالمصلحة والغرض والحسن أمور تنتزع من فعله تعالى.
هذا هو جوهر ما أفاده العلاّمة، وهذا الرأي ـ كما تعرفون ـ ليس مطابقاً تماماً لرأي المعتزلة الذين ذهبوا إلى القول بان الحسن والقبح ذاتيان للافعال. وليس مطابقاً لرأي الاشاعرة الذين يرون العالم بشكل مطلق خالياً من الحسن والقبح، ولا يقبلون بمعنى من المعاني الحسن والقبح العقليين (المعنى الاوّل والثاني للحسن والقبح عبارة عن الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة، وهو في الواقع ليس أمراً اعتبارياً، والمعنى الثالث الذي هو محل النزاع عبارة عن استحقاق الثواب والمدح والعقاب والذم). على أي حال يتخذ رأي المرحوم السيد الطباطبائي موقعاً وسطياً بين هذه الاراء(194).
نأتي الان إلى مقارنة نظرية المرحوم العلاّمة بآراء حكماء الغرب المعاصرين. الموضوع الاوّل في هذه المقارنة هو موضوع التصورات الاعتبارية، التي يصطلحون عليها "التصورات المعيارية". Normativevaluational, ethical, prescyiptive.
في ضوء نظرة السيد الطباطبائي ـ كما ذكرنا ـ ليس هناك وجود للتصورات الاعتبارية والمعيارية. والحسن ذاته تصور معرّف ( = الملائم للقوة الفعالة)، وصفة إضافية متى ما أخذت من موضعها لتستخدم في موضع آخر توفرت على معنى مجازي وأخلاقي. وهذا الكلام ذاته يجري في "الوجوب" أيضاً. فقد أكد العلاّمة على اننا إذا استخدمنا الضرورة الفلسفية في غير محلها، أي استخدمناها في مورد حادثتين ليست بينهما علاقة عليّة، فلا بدّ من ان تكون اعتبارية. وعندئذ ليست هناك ضرورة حقيقية. إذن! فالوجوب أمر معرّف أيضاً. وهذه إحدى نقاط اختلاف العلاّمة مع فلاسفة الغرب. فهذه الامور لدى بعض حكماء الغرب لا تقبل التعريف(195) ولا تتحول إلى تصورات بسيطة(196). فلا يمكن تحليلها إلى أجزاء، ولا يمكن تعريفها على أساس الجنس والفصل أو سائر الصفات الاخرى، بل لا بدّ ان يكون تصورها بالحدس والبداهة، وحينئذ قد يعي معناها الفرد أو لا يعي.
أكد "مور"(197) في كتابه المهم "أصول الاخلاق الصادر عام 1903م"(198) على: ان صفة "الحسن" لا تعادل أية صفة أخرى سواء أكانت مركبة أم بسيطة، ومن هنا لا يمكن تعريفها، وحينما يقال "الامر كذا حسن" فهذه القضية تركيبية دائماً وليست تحليلية، وموضوعها ليس عين محمولها اطلاقاً. فهو لا يعد "الحسن أساساً صفة طبيعية، واعتبارها معادلاً للصفة الطبيعية (أو ما بعد الطبيعية) مغالطة مهلكة أدت إلى القضاء على كثير من النظم الاخلاقية. يسمّي هذه المغالطة مغالطة المذهب الطبيعي(199)، في الوقت ذاته يرى مور ان "الحسن" صفة واقعية وخارجية(200)، على ان ادراكها لا يتم إلاّ حدساً. وفي هذه النقطة الاخيرة يختلف رأيه مع رأي المرحوم العلاّمة الطباطبائي أيضاً. مدرسة مور وروس(201) تدعى المدرسة الحدسيّة(202).
على ان ننبه إلى ان الحسن والقبح ـ في نظام العلاّمة الطباطبائي الاخلاقي ـ يتعلق بالافعال والوسائط، لا الغايات والمقاصد. أما لدى مور فصفة الحسن يمكن ان تتعلق بكل شيء أعم من الافعال وغير الافعال والوسائط والغايات.
الموضع الثاني في هذه المقارنة هو ان لدينا نوعين من الحسن والقبح ـ حسب وجهة نظر العلاّمة الطباطبائي ـ أحدهما صفة للفعل في نفسه والاخر صفة للفعل باعتبار صدوره من الفاعل. ومثل هذا التمييز لا نجده لدى حكماء الغرب. أو على الاقل لم أجده أنا. نعم ذهبوا إلى وجود معان متعددة للحسن، لكنهم لم يذهبوا إلى نظير هذا التمييز.
لكن الذين ذهبوا إلى ان الحسن صفة خارجية على قسمين: قسم نظير مور، حيث ذهب إلى ان الحسن صفة خارجية للشيء لكنها غير طبيعية وغير ميتافيزيقية. والقسم الاخر ذهبوا إلى ان الصفة خارجية وطبيعية، أمثال بنتام(203)، وميل(204)، فقد ذهبوا إلى ان حسن الشيء عين كونه مفيداً. أي ان الحسن صفة خارجية واضافية. وهؤلاء أصحاب مذهب المنفعة(205) (الحسن = النفع للاكثرية)، وقد وجه له مور انتقادات صريحة وقوية. واختلاف وجهة نظرهم مع نظرية السيد الطباطبائي واضح تماماً.
نصل الان إلى بحث أكثر أهمية، وهو ما طرحه الفلاسفة الوضعيون وهو: هل الاحكام والقضايا المعيارية والاعتبارية ذات معنى ومضمون أم لا؟ هذه الاحكام من وجهة نظر السيد الطباطبائي ذات معنى وتُدعى ادراكاً وتصديقاً. خلافاً للوضعيين عموماً الذين يرون ان القضايا ذات المعنى هي تلك القضايا التي يمكن التحقق منها تجريبياً(206) اما التي لا يمكن التحقق تجريبياً منها فهي خالية من المعنى.
وفق المقياس أعلاه لا معنى للقضايا الاعتبارية الاخلاقية والانشائية ـ على ان اطلاق مصلطح القضية عليها أمر صعب ويطلق عليها مصلطح شبه قضية(207) ، إذ ان جملة "يجب عليك ان تذهب" لا يمكن التحقق منها واختبارها. ولكن إذا لم يكن لهذه الاحكام معنى: فلِمَ تكون مؤثرة؟ يجيبون على هذا الاستفهام بان التأثير لا يرتهن دائماً بكون الحكم ذا معنى. فأنت أحياناً قد تصرخ صرخة لا معنى لها، لكنها تؤثر على الاخرين. يمكنك ان تتأوه، حيث ليس لهذا الفعل دلالة لفظية، لكنه يؤثر على الاخرين، أي: يمكنك ان تنقل احساساتك ومشاعرك إلى الغير عن هذا الطريق، فتعبر عن حبك أو بغضك لعمل ما.
تعد القضايا الاخلاقية لدى الوضعيين عامة ولدى فلاسفة البلدان الناطقة بالانجليزية على أثر أفكار الفرد آير(208) قضايا ليس لها معنى، وهي بمثابة الصرخات(209) التي تنطلق من حناجر الافراد، وتفصح عن عواطفهم وميولهم للاخرين. نظير صرخة الادمي من الالم، فهذه الصرخة لا معنى لها سوى انها تشير إلى ان الادمي متألم. كما هو الحال حينما تقول "السرقة عمل قبيح"، فهذا القول يشبه تماماً صرختك التي يفهم منها المراقب انك تكره السرقة. إذن فهذه الاقوال لا معنى لها، لكنها مؤثرة.
على ان من الواجب ان نلتفت إلى ان الجمل المعيارية ـ في تلك المدرسة التي تُدعى المدرسة الانفعالية أو العاطفية(210) ـ عين بروز العواطف، وليست معلولات عقلانية للعواطف ولست معانياً حاكية عنها.
حينما نقارن رأي المرحوم العلاّمة الطباطبائي مع هذه النظرية، فالعلاّمة يرى ان الاعتباريات وبيان الحسن والقبح تابعة لعواطفنا، وليست عينها. ويرى ان دوافعنا تستخدم العقل العملي، وتنتهي إلى مقام العمل عن طريق خلق مضمون ادراكي(211) وخلق ضرورة وحُسن. أماالوضعيون فيرون ان دوافعنا وحدها هي التي تعمل، وتجرنا إلى انجاز الفعل، دون العبور عن طريق قناة العقل العملي، لذا فما نعبر عنه تحت عنوان الحسن والقبح الاخلاقي ليس له معنى ومضمون ادراكي، بل مجرد تعبيرات وتجليات لما نحب ونكره ولمذاقنا وعواطفنا الشخصية فحسب. خصوصاً إذا مزجنا بين الوضعية وولدها المشروع (النظرية السلوكية)(212)، حيث يضحي عندئذ التأوه والصرخة وخمش الوجوه عين الاحساسات والعواطف، وليست أفعالاً صادرة عن العواطف والاحساسات.
إلى جانب أولئك الذين ذهبوا إلى ان القضايا الاخلاقية لا معنى لها، هناك باحثون آخرون طرحوا الموضوع بشكل أكثر دقة. يرتبط هذا الطرح تاريخياً بـ"فتجنشتين"(213)، الذي كتب "المباحث الفلسفية"(214)، ونبذ الطريقة التصويرية للغة(215)، وأطلق على الطرق المتميزة في استخدام اللغة (لعبة اللغة)(216) والذي أكد دور اللغة الخطير في البحث الفلسفي والمشكلات التي تثيرها أمام هذا البحث.
لكن اوستن(217) ورايل احتلا موقعاً أهم من سلفهما. فقد أثار أوستن الانتباه في اكسفورد إلى الاقوال الانجازية (الاقوال التي هي عين الاعمال)، ودرسها، وامتد تأثير أفكاره على فروع المعرفة البعيدة كالقانون. طرح اوستن ما يقارب ألف نوع من الكلمات التي تنطوي حين الاداء على انجاز لغوي، ولا تتضمن أخباراً. وقد سميت القضايا التي تتضمن على تلك الاقوال والتصورات بـ "القضايا الانجازية"(218). وقد تابع هذا الخط الفكري أحد تلاميذ اوستن "جون سير"الفيلسوف الامريكي المعاصر، في كتابه المشهور "الاقوال الانجازية"(219).
قلت ان اوستن أكد على بعض الالفاظ التي نؤديها ليست قولاً، وان جاءت في صيغة القول، بل هي عمل ننجزه، ولكن بما ان هذه الاعمال لبست ثوب الالفاظ فنحن نحسبها قضايا. صحيح ان كل قضة تأتي بصيغة الالفاظ، ولكن ليس كل ما يأتي بصيغة الالفاظ فهو قضية وذو مضمون ادراكي. صحيح اننا نصب المضمون الادراكي والخبري في قالب اللفظ، ولكن ليس كل ما نصبه في قالب اللفظ فله محتوى ادراكي وخبري. اللفظ من حيث الاساس يعني الاخراج، والادمي لا يخرج القضايا فقط بل أموراً كثيرة أخرى.
أورد أمثلة كثيرة في هذا الصدد. مثلاً أقول: "أبارك لك" وفي هذا القول لا أخبر عن شيء، بل عملية التبريك نفسها هي القول. ولا ينبغي ان يظن انني هنا أخبر عن عمل، وهو عبارة عن قول التبريك. وحينما أقول: "انني اشترط شرطاً" فانا لا أخبر عن عملية الاشتراط، بل نفس قولي هو عملية الاشتراط. وحينما أقول: "انني أعدك وعداً" فانا لا أخبر عن اعطاء الوعد، بل قولي هو عين اعطاء الوعد. وكذلك الحال في: أعتذر، ألعن، أدين... وكذلك الانشاءات الاخرى نظير: اشتريت، بعت، أنت طالق، أنت حر... فكل هذه الانشاءات أقوال انجازية.
إذا آمنا بان لدينا هذا اللون من القضايا أو الاقوال الانجازية، حينئذ يأتي "سيرل" ليقول ان الاحكام الاعتبارية من حيث الاساس هي أقوال انجازية. أي ان الحسن والقبح تطابق الوعد والتبريك، فهي عين العمل وليست أخباراً عنه، توضح هذه النظرية في قضية واحدة مجموعة مسائل، وتشترك وتشبه ما قاله السيد الطباطبائي في وجوه، كما تقترب من نظرية بعض علماء أصول الفقه الذين يرون الامر "بعثاً".
اولاً: في ضوء النظرية المتقدمة تتوفر القاعدة (عدم وجود علاقة استنتاجية بين القضايا الاعتبارية والقضايا الحقيقية) على معنى جديد ودليل جديد. فالعلاقة الاستنتاجية تقوم بين القضايا المنطقية. وإذا كان لديك في طرف قضية، وفي الطرف الاخر عمل، فمن الواضح فقدان الاستنتاج بمعناه المنطقي هنا.
ثانياً: توضح النظرية المتقدمة أيضاً المجازية التي طرحها
السيد الطباطبائي إلى جنب الادراكات الاعتبارية واعتبرهما من جنس واحد. وفوقاً لتحليل المرحوم السيد الطباطبائي يضحي الاعتبار لوناً من الفعل، فحينما نقول مجازاً: "السماء تبكي" نقول في الحقيقة: "السماء تمطر ونحن نحسب المطر دمعاً"، وهذا الحسبان والاعتبار هو نفس القول الانجازي، ولا يخبر عن شيء، وليس له تحقق إلاّ في عالم الاعتبار والفعل. فكل مجاز هو قول انجازي، خصوصاً إذا اعتبرناه من أفعال القوة المتخيلة، حيث قلنا ان عملها مجرد التصرف لا الادراك، حيث يتضح بشكل أكبر حينئذ الجانب الفعلي للمجازات.
وفي نفس الوقت ومع كل الدهشة يعد المرحوم السيد الطباطبائي المجاز كذبا (يعني قضايا) مؤثرة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ذهب جون سيرل إلى وجود علاقة استنتاجية بين الاعتبار والحقيقة. يعتقد سيرل عدم وجود فجوة منطقية بين بعض القضايا الحقيقية والاعتبارية، والقضايا المعيارية أساساً نوع من الواقع(220)، إلاّ انه واقع أصولي في المجتمع وعرفي(221). وعلى هذا الاساس يُستنتج من أصل من الاصول أصلاً آخر، يعني حينما نقول: (وعد حسن بدفع مقدار من المال إلى حسين) فمن هذا الوعد بنفسه يستنتج ان حسناً مدين لحسين. ومن هنا "يجب" عليه ان يدفع إلى حسين المال. يعني يستنتج (وجوب) مما هو كائن (واقع) ظاهراً. وبتعبير آخر حاول جون سيرل ان يجد مخرجاً من المأزق فذهب إلى ان القضايا الاعتبارية لون من الاقوال الانجازية، ثم اعتبر الاخيرة جزءاً من الاصول والاعراف الاجتماعية، أي واقع عرفي (أو اعتبار اجتماعي)، فيخلص إلى امكانية استنتاج أصل(222) (يعني وجوب الدفع) من أصل آخر (يعني الوعد بالدفع)، وهو استنتاج ليس منطقياً أيضاً بل نوع من الملازمة الخارجية.
وبعبارة أخرى ان أداء جملة (اعطي وعداً) ـ من وجهة نظر سيرل ـ ينجز الفرد خلالها عملية اعطاء الوعد، وبانجاز هذاالعمل يتحمل الفرد المسؤولية تلقائياً، وان هذا العمل يقع على عاتقه. يعني ان المجتمع يعتبر انجاز هذا العمل معادلاً لتحمل الفرد مسؤوليته، وهذا أحد الاصول والاعراف الاجتماعية، كما يعد المجتمع الاوراق النقدية مالاً، وتستلزم مبادلتها مجموعة أمور. و(ملكية) المال أصل اجتماعي، ويلازم هذا الاصل كثير من المحظورات، نظير (يجب ان لا تسرق مالي)، كذلك (الرئاسة) أصل اجتماعي، ومن هنا (تجب طاعة الرئيس)، فعلى فرض قبول رئاسة زيد يستنتج وجوب طاعته، وهذا الاستنتاج يقوم على أساس مفهوم الرئاسة وقبولها.
ما يصطلح عليه سيرل بالاصل الاجتماعي هو عين ما يسميه المرحوم العلاّمة الطباطبائي (الاعتبار ما بعد نشوء المجتمع ـ الجماعة)، الذي لا يعني سوى التوافق على مجموعة قواعد عملية. لكن المهم ان سيرل عد هذه الاصول واقعاً، ويستنتج منها وجوبات هي بمثابة وقائع أخرى. حقاً هل يكون عد العملة الورقية قيمة مالية أمراً آخر غير الاعتبار؟ نعم ان هناك أمراً واقعاً وهو ان هذا اللون من الاعتبار سائد في حياة الناس،إلاّ ان رواج اعتباره وشيوعه لا يغيّر اعتباريته،وقد اعترضوا بحق على سيرل: إذا كان الفرد غير مؤمن بقاعدة "وجوب الوفاء بالوعد" لا يلتزم بأي وجه من الوجوه بالوفاء بالوعد لمجرد انه وعد وعداً، بل الذي ينتج الالتزام هو الايمان بالقاعدة القيمية الاولى.
والامر كذلك بالنسبة "الايمان بقيادة القائد". نعم الايمان بقيادة شخص يعادل الايمان بوجوب طاعته، لكن البحث ينصب على ان الايمان بقيادة قائدهو عين اعتباره قائداً، لا غير. ومن الخطأ أساساً القول ان هناك شخصاً هو رئيس في الخارج والواقع. بل علينا القول ان "س" في وعاء الاعتبار رئيس، وفي نفس هذا الوعاء هو واجب الطاعة. إذن فمن "رئاسة زيد" كواقع خارجي لا يستنتج وجوب طاعته(223).
نصل إلى الملاحظة الاخيرة، التي نأتي على ذكرها بايجاز: هناك
نظرة في مجال مفهوم "الواجب"، وهي ان صفة "الحسن" بالنسبة إلى سائر صفات الشيء صفة متأخرة وطولية ولاحقة، ويعبرون عن ذلك بـ "Concequentiality" أو "Superueneency". والسؤال المطروح هنا هو: هل تحتل جميع السمات التي ننسبها للاشياء الخارجية مرتبة واحدة أم يحتل بعضها مراتب متقدمة وبعضها الاخر مراتب لاحقة؟ حينما نقول: التفاحة عطرة الرائحة، حمراء، وزنها ثلاثون غراماً، فمن الواضح ان هذه السمات غير مترتبة بعضها على البعض الاخر، بل نسندها إلى الشيء الخارجي في مرتبة واحدة. وإذا فرضنا ان (الحسن) صفة خارجية للشيء أو الفعل يبقى السؤال قائماً: هل (الحسن) صفة في عرض سائر الصفات أم انه صفة في طول سائر الصفات؟ هل يمكن ان نقول ان (س فعل حسن)، وحينما نسئل عن سبب حسنه نقول انه أمر لا يعلل وانه حسن بذاته، وان الحسن ينصب على الفعل بذاته مباشرة، دون واسطة، على غرار اتصاف المادة بالوزن؟ أم ان الحسن صفة تتعلق بالفعل بالواسطة؟ حينما يقال "س حسن" فنسأل: لماذا؟ ألانه كريم، ألانه جميل، ألانه صبور؟... فإذا أجاب مجيب بان حسن "س" لا يرتبط بأيّ من هذه الصفات، فهو بذاته حسن، لا لانه متصف بصفة ما، بل لانه هو حسن فهو حسن، من الواضح سوف نجد بالبداهة ان هذا الكلام سقيم، وان صفة الحسن (سواء ذهبنا إلى انها اعتبارية أو حقيقية) صفة متأخرة عن صفات أخرى، وان الحسن يأتي جراء كينونة الشيء على نحو من الانحاء، ولا يأتي مباشرة وبدون واسطة.
هذا هو معنى ان "الحسن" صفة لاحقة ومترتبة [Svper venient]، أي انها تسند إلى الشيء بعد اتصافه بصفات أخرى، سواء أكان الاسناد اعتبارياً أم حقيقياً. وهنا تطرح نظريتان: الاولى ـ ان صفة الحسن صفة لاحقة وهي صفة خارجية ترتبط بذات الشيء في عالم الخارج، وتسند حقيقةً إلى الشيء، أي يكون مفهوم الجملة (س شيء مفيد إذن فهو حسن) ان الشيء متصف بكلا الصفتين في نفس الوقت الذي يكون اتصافه بأحدهما سبباً لاتصافه بالاخرى: وليس استقلالياً. الثانية ـ ان ترتب صفة (الحسن) على الصفات الاخرى ترتب اعتباري، أي ان المعتبر بادراكه لسمات الشيء الخاصة، يحسبه حسناً أو قبيحاً، لا انه يكتشف استناداً لصفات أخرى في الشيء صفة الحسن. كما هو الحال في ترتب سمة الحرمة على شرب المسكر، فمن الواضح ان صفة الحرام اعتبار وصفة للمسكر، ففي نفس الوقت الذي يترتب فيه اعتبار الحرمة على الاسكار، لكنه ترتب اعتباري وليس منطقياً.
ويمكننا ان نستنبط النظرية الثانية ذاتها من كلمات السيد الطباطبائي. فهو لا يرى الحسن صفة خارجية للفعل، بل يعدها صفة اعتبارية. فهو يرى: "ان الفعل (س) مفيد، إذن فهو حسن اعتباراً لا حقيقة" و"زيد مقتدر، إذن سنجعله رئيساً اعتباراً لا حقيقة"; أي انه يرى ان الحسن صفة من الصفات التي تترتب لاحقاً لصفات الشيء، لكن هذه الصفات توفر فقط الارضية لاعتبار المعتبر، وليست أرضية لكشف صفة موضوعية أخرى، وهذا الاتجاه لون آخر للبحث الشيق والمثير: الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، أو من العلم إلى القيمة، أو من الواقع إلى الاعتبار.
آمل ان يكون هذا اللقاء ثواباً لروح المرحوم العلاّمة الطباطبائي. هدانا الله إلى الفهم ومتابعة الفكر العرفاني الالهي.
والسلام عليكم ورحمة الله.
دراسة في العلاقة بين العلم والاخلاق
أبو القاسم فنائي
اشارة: نبتدأ في هذه المقالة بتحليل طبيعة المفاهيم الاخلاقية، التي تمثل مفتاح لغة الاخلاق وركنها الاساس. ثم نتناول بالبحث منشأ انتزاع وعينية هذه المفاهيم، وبعد ذلك ندرس أنواع الجمل الاخلاقية وطبيعتها وموارد استخدامها، وأخيراً نعكف عبر درس العلاقة بين لغة الاخلاق والحقيقة على تحليل العلاقة بين العلم والاخلاق.
تصنف المفاهيم الكائنة في أذهاننا ـ من زاوية من الزوايا ـ إلى مفاهيم ماهوية ومفاهيم غير ماهوية. الماهيات مفاهيم ـ تفرض حسب الاعتبار الذهني ـ موجودة في الخارج. والعلاقة بين هذه المفاهيم وبين مصاديقها علاقة التطابق والعينية. أما المفاهيم غير الماهوية فهي انتزاعية وموجودة في الذهن فحسب، والعلاقة بين هذه المفاهيم وبين مصاديقها علاقة اللازم والملزوم. وهذه المفاهيم تنوّع ـ حسب طبيعة منشأ انتزاعها ـ إلى مفاهيم خارجية ومفاهيم ذهنية. وسمة الخارجية والذهنية تصدق على منشأ انتزاع هذه المفاهيم أوّلاً وبالذات، وتصدق ثانياً وبالعرض على ذات المفاهيم. أي إذا كان منشأ انتزاع هذه المفاهيم موجوداً في الخارج سُميت مفاهيم خارجية، وتسمّى ذهنية إذا كان منشأ انتزاعها موجوداً في الذهن.
أفاد الحكماء المسلمون من سمتي (الفلسفي والمنطقي) بغية الاشارة إلى التنويع المتقدم. إلاّ ان اصطلاح الحكماء يبدو اصطلاحاً غامضاً، ولعل الافضل والادق الافادة من سمتي الخارجي والذهني في هذا المجال; إذ ان الكثير من المفاهيم المنتزعة من الخارج ليست مفاهيماً فلسفية بالمفهوم الاصطلاحي للكلمة، بل هي تجريبية أو رياضية أو أخلاقية، واطلاق مصطلح الفلسفي عليها لاجل الاشارة إلى كونها خارجية، كما ان المفاهيم الانتزاعية الذهنية لا تتلخص في المفاهيم المنطقية أيضاً. ومن ثم يتضح ان كذب بعض المفاهيم الاخلاقية بلحاظ فلسفي لا يستلزم كذبها من جميع الجهات.
ولا يضاح الفكرة السابقة نأخذ المثال التالي: العلاقة بين الفعل والفاعل قبل صدور الفعل علاقة الامكان من زاوية فلسفية، وهذا لا يتنافى مع كون هذه العلاقة من زاوية أخلاقية علاقة ضرورية. فالامكان والضرورة الفلسفية أخص من الامكان والضرورة الخارجية، والضرورة الاخلاقية مفهوم يتحدث عن علاقة عينية. فالضرورة الاخلاقية ضرورة خارجية رغم كونها ليست فلسفية. ومن ثم يضحى حصر المفاهيم الانتزاعية الخارجية في المفاهيم الفلسفية أمراً خاطئاً; فكثير هي المفاهيم التي تستخدم في العلوم التجريبية والانسانية والرياضية مفاهيم انتزاعية وعينية رغم كونها غير فلسفية.