تحليل المفاهيم الاخلاقية:

المفاهيم الاخلاقية أجمع معقولات ثانية; أي ان هذه المفاهيم: أوّلاً ـ انتزاعية تنتزع عبر النظر إلى الموضوع من زاوية أخلاقية وتحمل عليه. وثانياً ـ منشأ انتزاعها خارج عن دائرة الذهن. وعلى هذا الاساس تضحى علاقة هذه المفاهيم بالواقع علاقة غير مباشرة، وليس لهذه المفاهيم ما بازاء مستقل يمكن الاشارة إليه حسياً أو عقلياً. وبتعبير آخر ان للمواضيع الاخلاقية صفات وخصوصيات تبرز في قالب المفاهيم الاخلاقية حينما ترد هذه المواضيع ساحة الذهن الانساني. وهذه الصفات والخصوصيات كائنات لا تتوفر على امكانية فصلها عن الموضوع والاشارة إليها بشكل مستقل.

ان نحو وجود الصفات الاخلاقية خارج الذهن دفع كثيراً من فلاسفة الاخلاق (الذين لم يتوفروا على تصور سليم وجامع للاشكال المختلفة لوجود الصفات خارج الذهن) إلى انكار الوجود العيني للصفات الاخلاقية وعينية المفاهيم الاخلاقية من حيث الاساس، ومن ثم لاذ هؤلاء الفلاسفة في تحليلهم للمفاهيم الاخلاقية وبحثهم عن جذورها ومضمونها بالعوامل الذهنية والنفسية، نظير العواطف والاحساسات والميل والبغض.

بينا إذا استطاع البحث اثبات ان هذه المفاهيم انتزاعية، يصبح الفرض المعقول عندئذ هو ان نلجأ إلى البحث عن منشأ انتزاع هذه المفاهيم. اما البحث عن دليل على الوجود العيني والمستقل للصفات الاخلاقية فهو أمر خاطئ من حيث الاساس، ويقوم على أساس تصور خاطئ عن نحو وجود هذه الصفات. أجل فالمفاهيم الاخلاقية الدالة على الصفات الاخلاقية حينما تكون انتزاعية لا يمكن ان تكون هذه الصفات ذاتها قائمة خارج الذهن، رغم خارجية منشأ انتزاعها.

وهذا القدر من الاثبات كاف للالتزام بالواقعية الاخلاقية وتبرير الايمان بالمضمون المعرفي للقضايا الاخلاقية وقابليتها للاتصاف بالصدق والكذب.

لماذا اضحت المفاهيم الاخلاقية معقولات ثانية؟

نصوص الفلاسفة المسلمين بصدد تنويع المفاهيم الكلية إلى معقولات أولى وثانية نصوص يعتريها الاجمال والابهام. وهؤلاء الفلاسفة (الذين ابدعوا هذا التقسيم كما يظهر للمتتبع) لم يتفقوا على تعريف هذين المفهومين كما لم يتفقوا أيضاً على تعريف المعقول الثاني الفلسفي (الخارجي) والمعقول الثاني المنطقي (الذهني)، ومن ثم لم يتفقوا على تحديد مصداق هذه المفاهيم.

المعيار الذي تبناه شيخ الاشراق لتشخيص هذه المفاهيم عبارة عن: "كل مفهوم يلزم من فرض وجوده وتحققه التسلسل معقول ثان". وحينما ينتزع العقل هذا المفهوم من الخارج يكون هذا المفهوم فلسفياً "خارجي".

ذهب فلاسفة مدرسة صدر الدين الشيرازي إلى ان المعقول الثاني الفلسفي مفهوم يكون الذهن محل عروضه والخارج محل اتصافه معاً، خلافاً للمعقول الثاني المنطقي حيث يكون الذهن محل عروضه واتصافه معاً. إلاّ ان هؤلاء الحكماء لم يقدمو تعريفاً دقيقاً لمفهومي العروض والاتصاف، ومن ثم يصبح تعريفهم في مقام التمييز بين المعقولات غير مجد.

يبدو ان العمل الممكن في هذا الميدان هو ان نتجه إلى بيان معالم هذه المفاهيم الثلاثة وخصوصيات كل مفهوم على حده. والتعريفان المتقدمان ينبغي فهمهما بهذا الاتجاه. على هذا الاساس يمكن تلقي الخصوصيات التالية بوصفها قسماً من خصوصيات المعقول الثاني الفلسفي أو المفهوم العيني غير الماهوي:

1 ـ لزوم التسلسل جراء فرض تحققه في عالم الخارج.

2 ـ عالم عروضه الذهن، وعالم اتصافه الخارج.

3 ـ غير قابل للتعريف، وهو مفهوم بسيط لا يقبل التحليل.

4 ـ صدقه في الموارد المختلفة على نحو التشكيك.

5 ـ لا وجود له بنفسه في عالم الخارج.

6 ـ منشأ انتزاعه موجود في الخارج.

7 ـ يُنتزع من زاوية خاصة من ذات الشيء أو من علاقته بالاشياء الاخرى.

8 ـ يُنتزع من ماهيات ومقولات متباينة.

9 ـ ادراكه يتوقف على فعالية عقلانية، نظير المقارنة والمقايسة.

ان بعض هذه الخصوصيات يمكن ارجاعه إلى بعضها الاخر، إلاّ ان الالتفات إلى كل خصوصية من هذه الخصوصيات مفيد في معرفة هذه المعقولات. نلاحظ ان هذه المعايير تصدق على المفاهيم الاخلاقية. خذ على سبيل المثال مفهوم الحسن فهو يصدق على الاشياء وعلى الافعال أيضاً، ويصدق على الخصال النفسية وعلى الغايات أيضاً; ومفهوم الواجب فهو يستخدم في القضايا العلمية ويستخدم في القضايا الاخلاقية والقانونية.

 

لماذا اضحت المفاهيم الاخلاقية عينية؟

ترتهن عينية أو ذهنية المفاهيم الانتزاعية ـ كما تقدم ـ بعينية أو ذهنية منشأ انتزاعها. من هذه الزاوية علينا ان نتناول بالبحث: هل المفاهيم الاخلاقية تنتزع من الامور العينية أم من الميول والاتجاهات النفسية للفرد؟ أي هل السمات العينية للموضوع تفضي إلى انتزاع تلك المفاهيم أم الميول والاتجاهات النفسية للفرد تفضي إلى ذلك؟ في الفرض الاوّل سوف تدل تلك المفاهيم على الخصوصيات العينية، بينا يمكن في الفرض الثاني ان تشير إلى حالات المتكلم النفسية. وبتعبير أدق: ان الاستفهام ينصب على سبب اعتبار المفاهيم فهل يرجع إلى خصوصيات ذات الموضوع أم يرجع إلى الحالات النفسية للفرد بالنسبة إلى ذلك الموضوع؟ أي حينما نقول: "الصدق حسن" فهل في الصدق ذاته ـ بغض النظر عن حالات الادميين النفسية ـ خصوصية تدفعنا إلى اعتبار الحسن له واطلاقه عليه، أم ميولنا واتجاهاتنا النفسية تفضي إلى اعتبار الصدق حسناً، وتدفعنا لحمل الحسن على الصدق؟

الاجابة: ان كلا العاملين مؤثر في التقويمات الاخلاقية، أي تكون خصوصيات ذات الموضوع أحياناً سبباً لانتزاع واعتبار المفاهيم الاخلاقية، وتكون اتجاهات وميول واحساسات الادميين أزاء الموضوع هي السبب في أحيان أخرى. ومن هنا يتضح ان اكتشاف منشأ انتزاع هذه المفاهيم أو دوافع اعتبارها يضع بين أيدينا مفتاح حل الاشكالية موضع البحث.

 

منشأ انتزاع المفاهيم الاخلاقية

المفاهيم الاخلاقية على ثلاثة أنحاء:

        1 ـ مفاهيم فعلية.

        2 ـ مفاهيم وصفية.

        3 ـ مفاهيم ربطية.

1) الصنف الاوّل للمفاهيم الاخلاقية يوسم بالاقوال الانجازية، وتنتزع من كلام المتكلم ضمن ظروف خاصة. التحسين والتقبيح، الامر والنهي، التوصية والحض أو دفع وتحذير المخاطب (البعث والزجر)، والتقويمات واظهار الانفعالات، كل هذه الامثلة مفاهيم من الصنف الاوّل. ان كثيراً من هذه المفاهيم لا يختص استعماله باللغة الاخلاقية، بل يستخدم في ميادين أخرى كالقانون وعلم الجمال... إلاّ ان تنوع الاستعمال لا يستدعي تنوع معاني هذه المصطلحات، ان هذا التنوع ينشأ من تنوع زاوية النظر التي يلاحظها المستعمل وهو يفيد من اللغة. يمكن ان نعد هذه المفاهيم أخلاقية حينما يستخدم المتكلم هذه المفاهيم من زاوية أخلاقية وحينما يكون بصدد التقويم واصدار الحكم الاخلاقي، لا بصدد الحكم القانوني أو الجمالي أو المصلحي...

ان جميع هذه المفاهيم تلبس ثوب التحقق عن طريق الفعالية اللغوية، وهي في الحقيقة لون من الفعل والانجاز الذي يحصل في ميدان الاخلاق بواسطة اللغة. وحيث ان القول فعل موجود في عالم الاعيان، إذن هذه المفاهيم عينية.

2) الصنف الثاني من المفاهيم الاخلاقية تمثل في الحقيقة صفات تحمل على الموضوعات الاخلاقية (الغايات، السمات النفسية والافعال الاختيارية).

وهذة الصفات عبارة عن: الحسن والقبح، ما ينبغي وما لا ينبغي، المسؤولية والالزام، والصحة والخطأ. هذه الصفات تشترك الاخلاق والقانون وربما ميادين أخرى في استخدامها، وتعد صفات أخلاقية شرط ان يكون الاتصاف بها من زاوية أخلاقية. وتتنوع هذه الصفات بدورها من زاوية منشأ انتزاعها إلى أنواع:

أ ـ بعض الموضوعات الاخلاقية تنتزع منها الصفات السابقة بالنظر إلى ذات الموضوع مع غض النظر عن جميع جهاته العرضية والاتفاقية. وعلى سبيل المثال: السعادة بالذات أمر مطلوب، والعدل بذاته حسن. فاتصاف هذه الموضوعات بالصفات الاخلاقية غير مقيد بأي قيد أو شرط، ومن هنا لا يحتاج العقل بغية ادراك الخصوصية الاخلاقية لهذه الموضوعات إلى الاستدلال، ويحصل ادراك الخصوصية الاخلاقية لهذه الموضوعات عبر الشهود العقلاني. وحيث ان موضوع هذه الصفات أمر خارجي وعيني يصبح محمول وصفة هذه الموضوعات خارجياً وعينياً أيضاً، أي ان السعادة في الواقع أمر حسن، والعدل في الواقع أمر حسن.

ب ـ بعض الموضوعات الاخلاقية يتطلب انتزاع الصفات الاخلاقية منها إلى حيثيات سلبية، وحينما تضم هذه الحيثيات إلى الموضوع يتوفر على صلاحية انتزاع وحمل الصفات عليه. ومن أمثلة هذه الموضوعات السعادة الدنيوية (الرفاه) ، والصدق. أي اتصاف هذه الموضوعات بالحسن لا يحتاج إلى عروض حيثية عليها، إلاّ ان حسنها اقتضائي ومشروط بعدم تعارضها مع قواعد أخلاقية أكثر أهمية منها.

ان هذه الموضوعات متوفرة بطبعها الاولي على الصفة الاخلاقية، رغم انها تفقد صفتها أثر عروض حالات عليها، فتتصف بضدها. فالصدق بطبعه الاولي حسن ومما ينبغي، ولكن حينما يؤدي إلى قتل الانسان البريء يفقد حسنه ووجوبه، ويصبح قبيحاً ومما لا ينبغي. وتدرك الصفة الاخلاقية الاولية لهذه الموضوعات عبر الشهود العقلاني، أما ادراك الصفة الثانوية فيتم عبر الشهود العقلاني أحياناً، وعن طريق الاستدلال أحياناً أخرى.

جـ ـ بعض الموضوعات الاخلاقية يتوقف اتصافها بالصفات الاخلاقية على عروض جهات مصححة، وتفتقر هذه الموضوعات إلى الصفة الاخلاقية بغض النظر عن الجهات العارضة. ومن الممكن ان تكون الجهات المصححة نتائج وغايات تترتب على هذه الموضوعات، وفي هذه الحالة يكون الحسن والقبح وما ينبغي وما لا ينبغي والصحة والخطأ تابعاً للنتائج التي يقدر اهميتها الميزان الاخلاقي. ومن ثم تضحى الاصول الاخلاقية التي تفرزها هذه الملاحظات أصولاً تقومها النتائج، وتنحصر معرفة الحكم الاخلاقي لهذه الموضوعات بطريق الاستدلال، الذي يحدد الجهات المصححة العارضة التي هي مقياس سلامة الاتصاف بالصفات الاخلاقية، وقد يتم الاستدلال عن طريق تحديد النتائج والغايات.

د ـ تتوفر الصفات الاخلاقية مضافاً إلى مصاديقها الحقيقية والعينية على مصاديق اعتبارية أيضاً. وينبع اعتبار هذه الصفات من أسباب مختلفة كالتربية، والعرف، والعواطف الانسانية، الدينية، القومية،... وتدفع هذه الاسباب الذهن الانساني إلى تطبيق الصفات الاخلاقية على موارد غير مواردها الحقيقية. ومن هنا تصبح الجمل التي تحكي عن هذه الصفات اعتبارية، نسبية، تخضع للاتفاق والمواضعة، التي تختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن مرحلة إلى أخرى، بل تختلف من فرد إلى فرد آخر.

ان هذا الصنف من الجمل الاخلاقية يمثل في الواقع أفكاراً ذات

أسباب وعلل، وليست أفكاراً مستنبطة على أساس الدليل، أي ان أساس الاعتقاد بها ليس هو الدليل، نعم من الممكن ان تلتمس لها الادلة بعد الاعتقاد، الادلّة المصطنعة.

يمكننا القول ان الافعال التي تقع مورداً للامر والنهي الشرعي تتصف بالصفات الاخلاقية بالمفهوم المتقدم. فالمسلم أثر التربية الدينية يعتبر العلاقة غير المشروعة بين الرجل والمرأة أمراً قبيحاً، رغم ان هذه العلاقة قد لا تعتبر قبيحة في ثقافة أخرى. وإذا سألت المسلم عن منشأ القبح الذي يصف به هذه العلاقة يجيب: ""لان الله قرر ذلك" أو "لان الرسول نهى عنها". في هذه الامثلة يتوسل الفرد لتبرير قناعته الاخلاقية بأمور ينحصر قبولها في دائرة محيطه الثقافي أو الحضاري الخاص. وهذا هو أحد معاني الحسن والقبح الشرعيين، أي يمكن القول: ان الحسن والقبح الشرعيين صفة تنتزع من الموضوع بلحاظ الاحكام الشرعية أو المنظار الشرعي. ومن الممكن ان يكون هذا المعنى أحد معاني الحسن والقبح العقلائي، القومي، الاعتباري وحتى الفردي أيضاً.

من الممكن تفسير الاحكام الدينية في ضوء المعنى المتقدم: ان الاخلاق الدينية لا تعني وصفاً مباشراً للافعال بالصفات الاخلاقية من قبل الدين، بل تعني انتزاع الصفات الاخلاقية عبر الامر والنهي والتحسين والتقبيح الديني. على ان هذا التحليل منسجم مع اتصاف الافعال المأمور بها شرعاً بالحسن والقبح الاخلاقيين اتصاف حقيقي. واثبات هذا الاتصاف يتطلب دليلاً، وهو أساس قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وهذا الدليل يؤكد ان الاحكام الشرعية ليست اعتبارية، بل هي تابعة حقيقةً للحسن والقبح الاخلاقيين، وهذا الحسن والقبح مغاير للحسن والقبح الذي يترسخ في نفوس المتدينيين أثر التربية الدينية.

ان تنوع وتعدد مناشئ انتزاع الصفات الاخلاقية وتنوع استخداماتها افضى إلى ظهور نظريات مختلفة ومتعارضة في فلسفة الاخلاق، ويبدو ان كل مدرسة من مدارس الاخلاق نظرت إلى قطاع من قطاعات هذا الميدان الفسيح، وعممت أحكام هذا القطاع على سائر القطاعات الاخرى.

3) الصنف الثالث من المفاهيم الاخلاقية تحكي عن علاقات حقيقية وروابط الواقع ونفس الامر. ولعل أمثلة هذه الصنف تنحصر في "ما ينبغي وما لا ينبغي". مفاد ما ينبغي وما لا ينبغي لون من الضرورة والامتناع اللذين يجدان مصداقيهما في مجالات متنوعة كالعلم والفلسفة والقانون والسياسة والاخلاق والحياة اليومية أيضاً. ان الفرق بين الضرورة الاخلاقية وسائر الضرورات يكمن في المضمون والمفاد، لا في كون أحدهما اعتبارياً والاخر حقيقياً. الضرورة الاخلاقية لا تختلف في مضمونها ومعناها وطبيعتها أدنى اختلاف مع سائر الضرورات، واستخدام الضرورة في الموضوعات الاخلاقية ليس استعارةً أو مجازاً، وسوف نعود إلى هذا الموضوع في فقرات البحث القادمة.

ما ينبغي وما لا ينبغي لون من العلاقة، وليست على غرار الاقوال الانجازية أو المفاهيم الوصفية. ما ينبغي وما لا ينبغي توضح لوناً من الضرورة والامتناع بالنسبة إلى الافعال أو الغايات. والجمل المتضمنة لما ينبغي وما لا ينبغي في مجال الاخلاق وغير الاخلاق يمكن استخدامها بقصد الاخبار كما يمكن استخدامها بقصد الانشاء والاعتبار، وهذا الامر أفضى إلى ابهام أنتج بدوره نظريات مختلفة بشأن طبيعة الجمل المتضمنة لما ينبغي وما لا ينبغي.

 

كيف توجد المفاهيم الاخلاقية؟

التحليل المتقدم يتيح لنا امكانية حفظ العلاقة بين المفاهيم الاخلاقية والواقع، فالمعقولات الثانية تنتزع من منشأها عبر لون من الفعالية العقلانية. أي ان العقل حينما يأخذ بنظر الاعتبار منشأ انتزاع هذه المفاهيم، فان الذهن يتوفر ذاتياً على هذه المفاهيم أو يُبدعها. عندئذ فإذا كان منشأ انتزاع هذه المفاهيم أمراً عينياً فسوف تكون هذه المفاهيم عينية أيضاً; على هذا الاساس ترتهن عينية المفاهيم الاخلاقية بعينية منشأ انتزاعها، وهذه المفاهيم ـ كما تقدم ـ ذات مناشيء انتزاع مختلفة:

1 ـ المفاهيم الاخلاقية الفعلية، عناوين تُنتزع من فعل المتكلم، هذه المفاهيم في الواقع أفعال تنجز بالاستفادة من اللغة، وفي هذه الموارد يكون الفعل الصادر من المتكلم واقعاً عينياً، والمفهوم المنتزع بالنظر إلى ذات فعل المتكلم يقبل الصدق والكذب. ونستطيع القول ان (أ) يستحسن الفعل (ب) حينما يكون في الواقع فرد (أ) استحسن الفعل (ب)، ونستطيع القول ان (أ) أمر بالفعل (ب) حينما يكون الامر كذلك في الواقع.

2 ـ تُنتزع الصفات الاخلاقية مع ملاحظة الغايات والخصال الانسانية والافعال كالصدق والامانة والسرقة والايثار والاحسان والمحبة والعدالة والكرم... تنتزع وتحمل على هذه الافعال. هذه الصفات تنتزع من أمور عينية أيضاً، وتبعاً لذلك فهي تحكي عن واقع قائم في نفس الامر، وتقبل الصدق والكذب.

3 ـ وأخيراً المفاهيم الربطية الاخلاقية فهي تنتزع من الخارج أيضاً، وتحكي عن الضرورة والامتناع العيني. على انه أحياناً ـ كما تقدم ـ ينتزع الادميون هذه المفاهيم اعتباراً ولاسباب غير معرفية، فينتزعونها مما هو ليس منشأ انتزاعها ويحملونها عليه. لكن تحليل حقيقة الاعتبار يؤكد ان الاعتبار فرع الحقيقة، ودون ان يكون للمفهوم ارتباط بالواقع فلا يمكن اعتباره، وإذا أمكن سوف لا يكون له التأثير المطلوب. ولكن على كل حال اعتبارية بعض مصاديق هذه المفاهيم أو استخداماتها العاطفية والانفعالية والسياسة لا ينبغي ان تفضي إلى انكار حقيقة وعينية هذه المفاهيم في الموارد الاخرى.

 

عينية الاحكام والاصول الاخلاقية

تنقسم الجمل والعبارات المتضمنة للاصول والاحكام الاخلاقية إلى صنفين كليين:

        1 ـ الجمل الانشائية.

        2 ـ الجمل الخبرية.

1 ـ الصنف الاوّل من الجمل الاخلاقية تستخدم استخداماً غير وصفي تماماً، وليس لها أي حكاية ودلالة، إلاّ بالملازمة والدلالة الالتزامية، نظير جملة "اصدق" أو "لا تكذب". فإذا صدرت من زاوية أخلاقية دلّت بالالتزام على حسن وقبح الفعل، لكنها لا تتضمن دلالة خبرية مطابقية مباشرة; لان هذه الجمل وضعت في الحقيقة لاجل صدور الامر والنهي والاقوال الانجازية الاخرى، ولم توضع للحكاية والدلالة. إلاّ انه يمكن ان نضع الامر والنهي في قالب القضايا الخبرية، وعندئذ تقبل هذه الجمل الصدق والكذب.

2 ـ الصنف الثاني من الجمل الاخلاقية ذات امكانية للاستخدام الانشائي أو الاعتباري والخبري معاً. ان هذه الجمل من حيث المبدأ أوّلاً وبالذات جمل خبرية وصفية ومعرفية، ولكن يمكن استخدامها بقصد الانشاء والاعتبار. فنحن نصف بهذه الجمل ونوصي ونأمر بها أيضاً. ويمكن أيضاً انجاز أكثر من عمل عبر قول هذه الجمل; فحينما نقول مثلاً: "الصدق حسن" فقد وصفنا الصدق، واستحسناه، وقومناه، وأبرزنا انفعالاتنا ازاء الصدق، وأوصينا ودفعنا المخاطبين للعمل بالصدق أيضاً; ولكن يبقى المضمون الكامن في هذه الاستخدامات أو مسوغ معقوليتها، هو المعنى الواقعي والوصفي، وهو المضمون المعرفي لهذه الجمل.

من هنا فحينما نسأل القائل: "لم تستحسن الصدق؟" أو "لم تدفع الاخرين نحو الصدق؟" لا نسمع بأي وجه جواباً يقول: "لانني أرغب في ذلك" أو "لان الجميع يرغبون بذلك". فهذه الاجوبة لا تضع بايدينا دليلاً مسوّغاً ومعقولاً لاستخدام هذه الجمل; بل الجواب الطبيعي والمسوّغ: "لان الصدق فعل حسن واقعاً".

اما إذا سألنا عن الدليل على الحسن فسوف يكون جواب القائل مرهوناً بالجهة التي أخذت بنظر الاعتبار في انتزاع الحسن والاتصاف به. مثلاً إذا انتزعنا الحسن من فعل أوصى أو أمر به الشارع فسوف يكون الجواب: "لان الله أمر" اما إذا كان الانتزاع من ذات الفعل فسوف يكون الجواب: "لان حسن الفعل بديهي ومستغن عن الدليل"، وإذا كان الانتزاع بالنظر إلى نتائج الفعل سوف يكون الجواب "لان الفعل يفضي إلى النتائج س"، وكل هذه الاجوبة مسوّغة وضامنة لمعقولية فعله.

على هذا الاساس يمكن ان نستنتج:

أ ـ الصنف الاوّل من المفاهيم الاخلاقية (التي تتحقق عبر العبارات الاخلاقية، والتي تُدعى الاقوال الانجازية) ظواهر واقعية وعينية، وجمل تحكي عن ذلك الفعل، وتقبل الصدق والكذب. إلاّ ان عبارات هذه الاقول الانجازية ليست خبرية ولا تقبل الصدق والكذب. فان موضوع الصدق والكذب هو الخبر لا الانشاء والقول لا الفعل. ذات الامر والنهي لا يقبل الكذب والصدق، أما الاخبار عنهما فيقبل الصدق والكذب. ومن هنا تصبح الجمل الفقهية خبرية تقبل الصدق والكذب، لان هذه الجمل تحكي عن صدور الامر والنهي التشريعيين، وهي تدل على الافعال التشريعية الالهية.

ب ـ الصنف الثاني والثالث من المفاهيم الاخلاقية أي المفاهيم الوصفية والربطية تقبل الصدق والكذب، ومضمونها خبري معرفي، لان موضوع جملها عيني وهو الغايات أو الافراد أو الافعال والسمات الاختيارية، ومحمولها أو ربطها عيني أيضاً، وهو المفاهيم الاخلاقية.

في هذا الضوء نواجه في حقل الاخلاق لونين من الجمل:

 

الاوّل: جمل تستخدم فقط لاجل الامر والنهي والتحسين التقبيح والبعث والزجر... وهي تفتقر إلى المضون العيني المباشر والمدلول الخبري المطابقي.

 

الثاني: جمل تتوفر على امكانية الاستخدام لمقاصد متنوعة انشائية واخبارية. تستخدم هذه الجمل لاجل الوصف والاخبار أحياناً وتستخدم أحياناً أخرى لاجل التوصية والاستحسان والمشورة والارشاد... فإذا أخذنا مثلاً جملة "الصدق حسن" أو "يجب الصدق" نجد انها يمكن ان تستخدم بدافعين على الاقل، فبالاستعانة بهذه الجمل يمكن الاخبار ويمكن الانشاء أيضاً، خلافاً لجملة "اصدق" فانها انشائية بحتة، ولا امكانية فيها للحكاية عن صفة واقعية للصدق.

 

العلاقة بين العلم والاخلاق:

تتشكل لغة الاخلاق من قسمين: خبري وانشائي (اعتباري). القسم الانشائي هو الجمل الانشائية التي تصدر بالاستعانة بها من المتكلم الاقوال الانجازية نظير الامر والنهي. وهذه الجمل يمكن ان تستخدم فقط للانشاء وبقصد الانشاء. اما القسم الخبري فهو يتشكل من الجمل التي يرتهن استخدامها بقصد المتكلم، ومن ثم يختلف مضمونها تبعاً لقصد المتكلم من اخبار أو انشاء.

1) لا معنى لادعاء الارتباط المستقيم بين العلم والاخلاق في مورد الجمل الانشائية نظير: "لا تكذب"، "اصدق"، حيث يصدر فعل الامر بواسطة هذه الجمل، والامر كذلك بالنسبة للجمل الاخبارية: "يجب الصدق"، "الصدق حسن" حينما تستخدم بقصد الانشاء والاعتبار; لان هذه الجمل ـ حسب الفرض ـ ليست خبرية. لكن دعوى وجود ارتباط جذري وغير مباشر بين هذه الجمل وبين الواقع أمر معقول تماماً ومقبول منطقياً; لان:

 

أوّلاً ـ ان صدور الامر والنهي الاخلاقيين خاضع لضوابط وشروط عينية وقيمية، وبدون هذه الضوابط والشروط يفقد الامر والنهي تأثيرهما المطلوب، وسيكون صدورهما لغواً وعبثاً.

 

ثانياً ـ تلقي الامر والنهي وامتثالهما خاضع لضوابط ومعايير بدونها تفقد طاعة الامر والنهي ومتابعتهما الاساس العقلي. فالعاقل الحكيم بحكم عقله وحكمته لا يأمر بالفعل المثير للفساد، فلا يستحسنه ولا يدعو الاخرين إليه. وهو بحكم عقله وحكمته أيضاً لا يتبع كل أمر وأي آمر ولا يستحسن ويقبح بشكل مطلق ولا يندفع تحت طائلة أي دافع. فالانسان العاقل يوزن احساساته ويقيسها في ضوء المقاييس العقلانية.

وهذا يعني ان التحسين والتقبيح والامر والنهي وسائر الاقوال التي تطلق بقصد بعث أو زجر المخاطب يجب ان تتوفر على شروط تحكم الحقل الانشائي اللغوي، لكي يكون هذا الانشاء أخلاقياً. هذه الشروط تشكل مبادئ للاقوال الانجازية الاخلاقية، وهي تنقسم بدورها إلى مبادئ أخلاقية وغير أخلاقية. ومن الشروط غير الاخلاقية القدرة والاختيار في انتخاب الفاعل للفعل والترك، وعلى هذا الاساس لو ثبت علمياً ان الفرد غير قادر تكوينياً على انجاز فعل ما فسوف نستنتج من هذه المقدمة العلمية ان هذا الفرد غير مشمول بالامر والنهي الاخلاقيين.

يراد من المبادئ الاخلاقية القيم الاخلاقية التي تحكم على صدور الامر والنهي والانشاء وسائر الافعال القولية. الامر والنهي بدورهما فعلان اختياريان يصدران من المتكلم، ومن ثم تحكمهما القيم الاخلاقية; على سبيل المثال عندما يعجز المخاطب يصبح الامر والنهي لغواً وقبيحاً، وهذا القبح مانع عن صدورهما من العاقل. في هذا الضوء يتضح ان القسم الانشائي من اللغة الاخلاقية مرتبط بالواقع عبر المبادئ وبلحاظ المبدأ والغاية. ومن ثم يصبح الانشاء الاخلاقي قابلاً للاثبات والابطال، وهذا يعني الارتباط غير المباشر بين العلم والاخلاق.

أجل علينا الالتفات إلى ان الشروط ليست سلبية باستمرار لكي ينحصر دورها بالابطال، بل تأتي بعض هذه الشروط ايجابية، ومن الممكن الافادة منها في تثبيت الامر والنهي الاخلاقيين. فالعاقل الحكيم يأمر وينهى من زاوية أخلاقية في ظل شروط خاصة فقط، وجميع الافعال الاخلاقية الاخرى من تحسين وتقبيح وحض وابراز للانفعالات الاخلاقية انما تتم تحت ظروف وشروط خاصة لكي تكون مقبولة عقلائياً. وهذه الشروط بمجموعها يمكن الاصطلاح عليها بالرؤية الاخلاقية. والرؤية الاخلاقية حاكمة على الجمل الاخلاقية وبدون رعاية مقتضياتها تفقد الاحكام الاخلاقية قيمتها وتضحي في الواقع أحكاماً غير أخلاقية.

في هذا الضوء نلاحظ قيام الارتباط غير المباشر بين هذا القسم من العبارات الاخلاقية وبين الواقع. وفي ظل تلك الشروط التي هي أمور عينية يمكننا الامر والنهي أو اثبات وتأييد أو ابطال الواجبات الاخلاقية، دون ان نقع في مغالطة منطقية. الامر والنهي الاخلاقيان يتطلبان ملاكاً ومسوغاً، وترتهن صحة وسقم الامر والنهي بوجود وعدم وجود المعيار المصحح والمسوغ.

على ان نذكر بان القسم الانشائي الامري من اللغة الاخلاقية يتوقف ويتأسس على القسم القيمي من تلك اللغة; لان بعض الشروط المسوغة للامر والنهي الاخلاقيين هي عين القيم الحاكمة على صدور الامر والنهي، حيث ان الامر والناهي من زاوية أخلاقية يمارس عملاً محكوماً بالقيم الاخلاقية. فالامر الاخلاقي مثلاً لا يتمكن من الامر بالفعل القبيح، وإذا فعل ذلك فسوف يكون أمره غير أخلاقي ولا يستحق المتابعة، ومن هنا نتوسل دائماً في تبرير أوامرنا الاخلاقية بالقيم الاخلاقية.

2) أما علاقة القسم الخبري من لغة الاخلاق أي الجمل المتضمنة وصفاً أو ربطاً أخلاقياً فهي علاقة مباشرة. فهذه الصفات والروابط ذاتها وجه من وجوه عالم الواقع وترتبط مع سائر وجوه هذا العالم. ان عينية الصفات والعلاقات الاخلاقية تفضي إلى ان تكون الجمل المتضمنة لهذه المفاهيم ناظرة إلى الواقع وذات مضمون معرفي، وتقبل الصدق والكذب.

على هذا الاساس تكون العلاقة الاستنتاجية بين الجمل الاخلاقية وغيرها سليمة، ولا تتضمن استحالة منطقية. نعم تخضع هذه العلاقة للقواعد المنطقية القائمة في حقول العلم والفلسفة، حيث لا يصح استنتاج أي قضية من أي قضية أخرى، ولا يمكن الاستدلال على كل شيء استناداً لاي شيء.

ان الادلة التي أقيمت لنفي هذه العلاقة واقامة حائل منطقي بين العلم والاخلاق ليست سليمة; لان جميع هذه الادلة تنطلق من فرضية ان لغة الاخلاق ليست وصفية وان الجمل الاخلاقية انشائية، وقد لا حظنا ان القيم الاخلاقية ذاتها لون من الواقع، والاخلاق ذاتها لون من العلم. حيث ان قسماً من الموضوعات والمحمولات والعلاقات التي يدرسها أمور حقيقية وعينية.

في هذا الضوء تصبح العبارات المتضمنة للحسن والقبح أو ما ينبغي وما لا ينبغي قضايا ناظرة إلى الواقع وتقبل الصدق والكذب، بحكم كونها تستخدم بقصد الوصف والاخبار من زاوية أخلاقية لا بقصد الانشاء أو الاعتبار، ومن ثم يمكن ان ترتبط منطقياً بالقضايا الواقعية. فهذه القضايا تحكي عن صفات وعلاقات الواقع ونفس الامر وهي مرتبطة بسائر صفات الموضوع الواقعية.

لنأخذ مثالاً: ان حسن وقبح ووجوب وحظر بعض الافعال يرتهن بالنتائج والمصالح والمفاسد المترتبة على الفعل، وعن طريق هذه النتائج يمكن اثبات أو ابطال الحسن والقبح والوجوب والحظر، وحيث ان العبارات التي توضح نتائج الفعل قضايا علميه أو فلسفية عندئذ يكون اثبات وابطال الصفات الاخلاقية عن طريق نتائج الفعل معادلاً للارتباط المنطقي بين الاخلاق والعلم والفلسفة. رغم ضرورة اثبات أخلاقية النتائج.

 

العلاقة بين الضرورات الاخلاقية والواقع

العلاقة بين الجمل المتضمنة لما ينبغي وما لا ينبغي بالواقع تتطابق تماماً ـ في حال اطلاق هذه الجمل بقصد الانشاء والاعتبار ـ مع الارتباط القائم بين الامر والنهي وبين الواقع، وهو ما تقدم بحثه. اما إذا استخدمت هذه الجمل بقصد الاخبار فهي ذات مضمون وصفي، وتخبر عن ضرورة وامتناع الفعل، ولذا تقبل الصدق والكذب عبر مراجعة الواقع. حينما يقول شخص ما: "يجب فعل س" فاذا كان "س" واقعاً لا ضرورة لانجازه كان قوله غير مطابق للواقع وكاذب. تأمل طريقة استخدام هذه الجمل في اللغة الاخلاقية وطريقة الدفاع عنها، تجد ان الضرورة في هذه الجملات قد تكون ذاتية أحياناً وأحياناً أخرى تكون اقتضائية أو عرضية وغيرية، وفي الحالة الاخيرة تنتزع هذه الضرورة من علاقة الافعال بالغايات أو من عناوين أكثر عمومية للافعال. هذه العبارات في الحقيقة قضايا شرطية، ولا تنص على الشرط لوضوحه.

أما ما هي الغايات فتحديدها تابع لشروط استخدام العبارات. فحينما يقول الطبيب لمريضه: "يجب عليك استعمال الدواء س" يرجع مضمون قوله إلى الجملة "إذا أردت الحفاظ على صحتك عليك باستعمال الدواء س". تلاحظ هنا ان الغاية هي الحفاظ على الصحة، ومراجعة المريض إلى الطبيب دليل على ارادته لهذه الغاية. من هنا فالطبيب يخبر عن علاقة وضرورة واقعية، وكلامه يحكي عن واقع يمكن تصديقه أو تكذيبه بالرجوع إلى عالم الخارج، فإذا كان استعمال الدواء لا يؤدي إلى الحفاظ على الصحة يصبح كلام الطبيب كاذباً ومخالفاً للواقع.

هذا في مجال الطب، والامر على نفس الوتيرة في ميادين الاخلاق، انما يختلفان في الغايات لا في مضمون العبارات. الغاية في الاخلاق تختلف عن الغاية في الطب والعلوم الاخرى. الضرورة الاخلاقية لون من العلاقة التكوينية، وهي لا تختلف أدنى اختلاف مع الضرورة الفلسفية والعلمية من حيث المضمون والمعنى. فإذا فرضنا ان السعادة غاية الاخلاق، وان السعادة أمر مطلوب بذاته في مجال الاخلاق، يصبح معنى جملة "يجب الوفاء بالعهد" هو "لاجل الحصول على السعادة يجب الوفاء بالعهد". ولكن إذا اكتشفنا ان الوفاء بالعهد لا يلعب دوراً في تحقيق السعادة كذبت العبارة المتقدمة، وحيث ان العلاقة بين السعادة والوفاء بالعهد علاقة واقعية فان العبارة التي تحكي عن هذه العلاقة عبارة خبرية وتقرر واقعاً. ان هذه الغاية تطلع ينتظر تحققه الفرد جراء الحياة الاخلاقية.

ان هذه الغاية تؤخذ مسلمة مفروضة في الحوار الاخلاقي بين المتكلم والمخاطب، وأفضل شاهد على ذلك ان المتكلم حينما يطالب بالدليل فانه يستدل في بعض الموارد على ضرورة الفعل بضرورة الغاية. وهذا يدل على ان الضرورة الاخلاقية لبعض الافعال ضرورة غيرية استعيرت من ضرورة الغايات. ومن الممكن أيضاً ان تكون ضرورة الغايات نفسها غير ذاتية، ولكن لا بدّ ان نصل في النهاية إلى غاية ضرورية بالذات ولا تتطلب استدلالاً وبرهاناً. وبتعبير آخر ان بعض الافعال مطلوبة بالعرض وتصل في النهاية إلى مطلوب بالذات.

على هذا الاساس فالعبارات المتضمنة للضرورات الاخلاقية تمثل في الحقيقة ـ عبر استخداماتها الخبرية ـ عبارات تخبر عن عالم الخارج، ويمكن اثباتها ونفيها بالرجوع إلى هذا العالم. على ان هذه العبارات يمكن استخدامها بقصد الاعتبار والانشاء أيضاً، ولكن يبقى ارتباطها مع الواقع بشكل غير مباشر محفوظاً حتى في استخدامها الانشائي. ومن هنا نلاحظ ان هذه العبارت في استخدامها الانشائي يمكن تبريرها بالواقع.

حينما نقيس الافعال التي لا ضرورة ذاتية لها بالغايات المطلوبة نجد ان هذه الافعال لا تخرج عن ثلاثة اشكال: اما ان يتوقف تحقق الغايات عليها، وهذه الافعال تتصف بالضرورة والوجوب، ولاجل بيان هذه الضرورة يفاد من عبارة ينبغي أو العبارة المتضمنة لها. واما ان تكون الافعال مانعاً دون الوصول إلى الغاية المطلوبة، وهذه الافعال تتصف بالامتناع، وعبارة لا ينبغي تعبر عن هذا الامتناع، وأخيراً الشكل الثالث من الافعال، وهي التي تكون حيادية بالنسبة إلى الغاية المطلوبة، ولا تتصف بالضرورة أو الامتناع.

العبارات المتضمنة للضرورة الاخلاقية تحكي أحياناً عن ضرورة وامتناع ذاتيين ولا يعللان ولا يمكن الاستدلال عليهما. والعقل في ادراك ضرورة هذه الافعال يغض النظر عن الغايات والنتائج. وتنحصر امكانية ادراك هذه العبارات بالشهود العقلي، الذي يمثل منبع ادراك البديهيات. مثلاً: مهما سعى العقل ومهما فرض من فروض لا يمكنه ان يجد مورداً لا يكون العدل فيه حسناً، وعلى هذا الاساس يضحى ادراك حسن العدل كلازم ذاتي لا ينفك عن العدل مرتهناً بالشهود العقلي، وحينما نتساءل لم أصبح العدل حسناً؟ سوف لا نجد جواباً سوى ان نقول: العدل حسن بالذات، وحسنه لا يحتاج إلى علة، ومن ثم فهو غني عن الدليل.

وحيث نلوذ بالاستدلال بغية تبرير هذه العبارات، فان الاستدلال يتخذ شكلين رئيسيين، وتبرر ضرورة وامتناع الافعال في صورتين: الاولى عن طريق النتائج وما تؤول إليه الافعال، والثانية عن طريق تطبيق عنوان فعل آخر على الفعل موضع البحث. فضرورة الوفاء بالعهد مثلاً يمكن تبريرها عن طريق بيان نتائج هذا الفعل، ويمكن أيضاً تبريرها عن طريق تطبيق عنوان العدل على الوفاء بالعهد.

على هذا الاساس تتنوع الضرورة الاخلاقية إلى ذاتية واقتضائية وعرضية، ومن ثم يكون للمفاهيم الربطية الاخلاقية ثلاثة مناشئ لانتزاعها على غرار الصفات الاخلاقية:

أ ـ بعض الافعال ضرورية أو ممتنعة من زاوية أخلاقية بلحاظ ذات الفعل ومع غض النظر عن جميع الحالات والعوارض، وهذه الضرورة أو الامتناع لا ينفكان عن الفعل بحال. وادراك هذه الضرورات بديهي، ولا يمكن اثبات البداهة عن طريق الاستدلال. فهذه الافعال من زاوية أخلاقية مطلوبة بالذات، لا لغاية وغرض أو عنوان عارض.

ب ـ بعض الافعال ضرورية أو ممتنعة من زاوية أخلاقية بلحاظ ذاتها. لكن ضرورتها أو امتناعها ليست ذاتية ويستحيل انفكاكها، بل حينما تعرض جهات أكثر أهمية على الفعل فسوف يتغير حكمه. والنتائج التي تترتب على الفعل أحد الامور التي تلعب دوراً في تحديد هذه الضرورة والامتناع.

جـ ـ بعض آخر من الافعال ليس بواجب ولا ممتنع بذاته، بل ضرورته وامتناعه تبع لشروط وأوضاع تسوغ الحكم الاخلاقي. ومن الممكن ان تلحق هذه الافعال الضرورة أو الامتناع من جهتين: الاولى عن طريق الغايات ذات الاهمية الاخلاقية، والثانية عن طريق العناوين الضرورية أو الممتنعة أخلاقياً.

د ـ وأخيراً بعض الافعال التي تصبح ضرورية أو ممتنعة جراء الاعتبار والعقد الاجتماعي، ويحصل هذا الاعتبار نتيجة التربية والتعليم، التقليد والانفعالات والمواقف السياسية والثقافية أو ادراك المصلحة والمفسدة. ويتيسر ادراك هذه الاعتبارات عن طريقين: الاوّل عن طريق نص المعتبر بالامر والنهي، والثاني عن طريق اكتشاف المعايير والضوابط التي تم على أساسها الاعتبار، ولذا إذا ثبت ان الله تعالى أخذ بنظر اعتباره المصالح والمفاسد والحسن والقبح في تشريعاته، أمكن ان تكون هذه الامور اساساً لكشف الاعتبارات التشريعية.

قلنا ان مفهوم ما ينبغي وما لا ينبغي مفهوم ربطي، وهنا نطرح السؤال التالي: ما هما طرفا هذا الربط، إذ لكل ربط طرفان؟ الجواب هو ان هذه المفاهيم تحكي عن علاقة فعل وفاعل، أي تحكي عن ان الفعل (س) ضروري للفاعل (ص). على ان (ص) يمكن ان يكون شخصاً أو جماعة إنسانية أو كل الناس بل يمكن ان يكون كل فاعل مختار. اما العلاقة بين الفعل والغاية فهي حيثية تعليلية لهذه العلاقة، أي ان ضرورة الفعل للفاعل في بعض الموارد تنبع من ضرورة الغاية ونتيجة الفعل.

رغم ان العلاقة بين الفعل والفاعل قبل صدور الفعل علاقة الامكان فلسفياً، لكنها يمكن ان تكون علاقة الضرورة أو الامتناع من زاوية أخلاقية، وهذه الضرورة مقابل الضرورة الفلسفية، وهي ضرورة عينية واقعية. لان الضرورات الخارجية لا تنحصر في الضرورة الفلسفية، واختلاف الفلسفة والاخلاق في هذا المجال من باب اختلاف زاوية النظر. فالفعل الواحد قد يكون ممكناً من زاوية فلسفية وضرورياً من زاوية أخلاقية، لكن ذلك لا يفضي إلى ان نعتبر الضرورة الاخلاقية أمراً اعتبارياً وهمياً، فالاتصاف بالضرورة والامكان قبل وجود أطراف الربط أمر ممكن ومعقول.

 

صلاحية اصدار الاوامر الاخلاقية:

السؤال المهم الذي يستحق ان يطرح هنا هو: مَنْ الذي يمتلك صلاحية وحق اصدار الاوامر والنواهي والتقويم الاخلاقي؟ يطرح هذا السؤال لوضوح ان أوامر جميع الامرين ليست ملزمة أخلاقياً، وبعبارة أخرى ان صدور الامر والنهي وطاعة ومتابعة الاوامر والنواهي فعلان اختياريان، وهما موضوع للحكم القيمي الاخلاقي، ويتصفان بالحسن والقبح وما ينبغي وما لا ينبغي. ومن هنا يلزم بيان معيار صلاحية صدور الاوامر الاخلاقية، إذ بدون بيان واضح لهذا المعيار يمكن ان يكون كل أمر أخلاقياً، ويمكن ان يكون الامران المتعارضان أخلاقيين في نفس الوقت.

في الاجابة على السؤال المتقدم علينا ان نقول: ان حق أو صلاحية اصدار الامر والنهي الاخلاقي (القانوني) يتبع شروط وضوابط تنشأ من العقل السليم، وأحد هذه الشروط هو البصيرة والخبرة والاختصاص التي يتمتع بها الامر. مثلاً: الطبيب وحده له صلاحية وحق الامر والنهي في مجال معالجة المريض، والمريض من زاوية أخلاقية مكلف بالعمل بارشادات الطبيب فقط. فغير المختص ليس له حق الامر والنهي وأمره فاقد للاعتبار، وليست له قيمة أخلاقية، وليس على المريض أي التزام ازاءه. وهذه الملاحظة تشمل سائر الاختصاصات. الشرط الاخر شفقة واخلاص الامر بالنسبة للمأمور، أى ان الامر ينبغي ان يرعى مصلحة ومنفعة المأمور، لا مصلحته ومنفعته الشخصية. حق صدور الامر والنهي حق طبيعي وعقلاني أوّلاً وبالذات، ومحدود بقيود وشروط، بدونها لا يحق لاحد الامر والنهي وليس هناك في عاتق الاخرين التزام بامتثال أمره. الله تعالى أوّل وأعلى شخص ـ على أساس المعتقدات الدينية ـ له مثل هذا الحق، وحق الله مطلق بالامر والنهي في جميع المجالات. لانه يتوفر بشكل مطلق على جميع الصفات المطلوبة للتوفر على هذا الحق، فالله عالم مطلق وحكيم مطلق ورحيم مطلق وغني مطلق لا يتصور له أي نفع في الامر والنهي.

ويأتي في الرتبة اللاحقة الانبياء والائمة المعصومون، لانهم متصلون بعالم الغيب، ومتوفرون على الحكمة والعلم اللدنيين، ومعصومون عن الخطأ، ومتصفون بالكمالات الاخلاقية كالامانة والرحمة والشفقة على الخلق... فلهؤلاء صلاحية الامر والنهي، وعلى أساس المسلمات المقبولة تتوفر أوامرهم ونواهيهم على الشروط المطلوبة، واحتمال الخطأ منفي عنها.

إذا تجاوزنا هاتين الرتبتين نصل إلى الانسان الاعتيادي، حيث تضيق دائرة حق الامر والنهي بالنسبة إليه، وتتبع بشكل كامل لياقاته العلمية والعملية، الاخلاقية، الاختصاصية والتجريبية. يمكن ان يكون حق اصدار الاوامر للناس الاعتياديين اعتبارياً ووضعياً، إلاّ ان قيمة هذا الاعتبار ولياقة متابعته ترتهن بتوفر الامر على الصفات الاخلاقية وغيرها من الصفات المطلوبة، إذ بدون ذلك ليس هناك أي الزام ـ من زاوية أخلاقية ـ في عاتق أي فرد بطاعته. ان الحقوق الاعتبارية لا بدّ ان تنتهي إلى الحقوق الطبيعية حيث تكتسب منها المشروعية، والضرورة الاولى يجب ان تكون طبيعية وعقلية، لا شرعية واعتبارية. فتفويض المواقع الدينية من قبل الله وتشريع الحقوق الاعتبارية تابع لصلاحيات وخصوصيات ضرورية، وتابع للحقوق الطبيعية; لان أفعال الله تعالى محكومة بالاصول والقيم الاخلاقية. فافعال الله التشريعية ليست عبثاً وفوضى، بل لها أساس وملاك، وهو القيم الاخلاقية.

على أساس ما تقدم تصبح الاخلاق أساس وقاعدة القانون، والحقائق متكأَ الاعتبارات. وسوف تفقد الاعتبارات دعمها اللازم دون ان تضع الحقائق قدمها في الميدان، وسوف لا يلتزم أي عاقل من زاوية عقلية وأخلاقية بالاعتبارت. ومثل هذه الاعتبارات الفاقدة للاساس والدعامة لغو وعبث ولا ضمان لتنفيذها، ولا تصدر من أي حكيم.

 

منهج معرفة الاحكام والعبارات الاخلاقية

تضمن التحليل المتقدم النتائج التالية:

1 ـ من الممكن بيسر معرفة الاوامر الاخلاقية عن طريق معرفة مبادئها والشروط التي تحكمها. ويمكن أيضاً نفيها وابطالها عن طريق معرفة الوقائع التي تحول دون تنفيذها، ومن ثم إثبات انها لغو.

2 ـ من الممكن ادراك العبارات القيمية الاخلاقية بحكم مضمونها الوصفي والخبري عن طريق الاستدلال; إلاّ ان القاعدة البديهية المنطقية تقرر ان نتيجة الاستدلال السليم لا بدّ من حضورها في المقدمات، ومن ثم يضحي الاستدلال على العبارات الاخلاقية منطقياً بشرط ان يتركب من عبارات قيمية وعبارات غير قيمية. وعلى سبيل المثال: الحسن والقبح الذي يثبُت في نتيجة الاستدلال لموضوع من المواضيع يلزم ان يكون حاضراً في مقدمات الاستدلال، وهذا يستلزم وجود عبارة أو عبارات بديهية أخلاقية تدعى بديهيات العقل العملي أو الحسن الاولي.

يثبت التحليل أعلاه ان نفي بداهة جميع العبارات الاخلاقية لا يحالفه الصواب، ودعوى حاجة جميع العبارات الاخلاقية إلى الاستدلال تنتهي بالشك الاخلاقي. والعبارات البديهية الاخلاقية تحصل جراء الشهود العقلي. فإذا أخذنا على سبيل المثال عبارة: "العدل حسن"، وحاولنا فصل العدل عن الحسن، وافترضنا مورداً يكون عدلاً وغير حسن، فسوف تواجه محاولتنا فشلاً. وهذا يدل على ان الشك الابتدائي والمؤقت في حسن العدل ليس دليلاً على حاجة اثبات الحسن للعدل إلى الاستدلال، أجل هذا اللون من الشك يمكن ان يعتري سائر القضايا البديهية، وطريق التخلص منه هو ان نضع الذهن في شروط يستطيع ادراك صدق هذه القضايا.

الفكرة المتقدمة تعبير آخر عن نظرية علماء أصول الفقه في هذا المجال، فهؤلاء يقولون ان حسن العدل أمر ذاتي، ولاجل انتزاع الحسن من العدل لا حاجة إلى ضم أي حيثية تعليلية أو تقييدية إلى العدل. فالعقل حينما يلاحظ "العدل" مع غض النظر عن أي أمر آخر يجد ان العدل حسن.

على هذا الاساس لا بدّ من الاعتراف بالضرورة أوالحسن الاوليين أو بديهيات العقل العملي. فبديهيات العقل النظري غير مجزية في اثبات العبارات الاخلاقية (الحكمة العملية). إلاّ ان الضرورة الاولى لا يمكن أن تكون الامر الالهي والحسن والقبح الشرعيين. فهذا القول لا يحل المشكلة; لان حسن الاوامر والضرورات الشرعية ووجوب طاعتها ليس ذاتياً ولا يدرك بالبداهة، ومن ثم يتطلب دليلاً وتعليلاً مستنداً إلى ضرورة أخرى.

وأوضح دليل على الفكرة المتقدمة يمكن تحديده بسهولة عبر الاجابة على الاستفهام التالي المطروح على تلك الاوامر: لماذا يجب طاعة الامر والنهي الشرعيين؟ ان مجرد امكانية طرح هذا الاستفهام دليل على ان الاوامر الشرعية ليست الضرورة الاولى، ووجوب طاعتها يتطلب دليلاً وتبريراً متكئاً على ضرورة أخرى. وبتعبير آخر ان امتناع أمر الشارع بالقبيح ونهيه عن الحسن ليس بديهياً، واثبات هذا الامتناع يتطلب دليلاً، نحاول تركيبهُ بمعونة صفات الله تعالى التي لا تتلائم مع صدور الامر بالقبيح والنهي عن الحسن، وبدون اثبات هذه الخصوصية (صفات الله) لا تتأهل الاوامر والنواهي الشرعية للطاعة. ومن هنا فقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع التي يفيد منها الفقهاء في استنباط الاحكام الشرعية قاعدة غير بديهية.